"الجوهرة" تفتح الملف وتجيب عن الأسئلة الصعبة: رأي الطب النفسي في شغف الآباء بتوثيق حياة أطفالهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي

ألبوم الصور المُزركش هو جزء من ذكريات كل أسرة عربية، فالأطفال يطالعون صورهم به بين الحين والآخر حتى يكبروا، وتصبح ذكراهم في الخزانة يفتحونها كلما شعروا بالحنين، أما حديثًا فتطوّر الأمر ليوثق الآباء لحظات أطفالهم حصريًا عبر منصات السوشيال ميديا، ويفتحون لهم حسابات بأسمائهم، ويطلقون لهم هاشتاجات ويشاركون لحظاتهم مع الجميع.

وما بين أفكار مجتمعية تعارض هذا الأمر من منطلق البعد عن الحسد والغيرة وغيرها، وبين نصائح المتخصصين بالحد من تلك الظاهرة التي لها مخاطر عديدة، تسيطر الرغبة الكبيرة للآباء في عصر السوشيال ميديا على توثيق لحظات أبنائهم "أونلاين"، وهو ما دعا "الجوهرة" لفتح هذا الملف.

الهاشتاج يوثق كل لحظة

"بدأ الأمر معي مصادفة؛ لأن ابنتي ولدت وأنا بعيد عن بلدي، فأرسل أهلي وأصدقائي أول صور لمارية حتى أطمئن عليها وعلى زوجتي، وبدأ الجميع يهنئني على ميلادها، وهنا خطرت لي فكرة توثيق صور ابنتي".. يغمض "حجازي" عينيه للحظات ثم يستعيد بابتسامة ذكرياته مع هاشتاج كل يوم مارية everydaymariya#.

وقرر حجازي سعد، وهو مصري يعمل في الإمارات، استغلال مواقع التواصل الاجتماعي في رصد وتوثيق كل لحظات الحياة بين سعادة وألم، لقاء وفراق، لتتحول تلك المواقع إلى "ذاكرة إلكترونية" لكل علامة بارزة وسط مفارقات الحياة.

وقال "حجازي": "خطر على بالي فكرة توثيق صور ابنتي عبر هاشتاج كل يوم مارية everydaymariya#، بهدف الوصول لهذه الصور مرة أخرى، وفوجئت بتفاعل جميل جدًا من أصدقائي وأهلي، ومن هنا شعرت بضرورة توثيق لحظات مارية، وهي تكبر يومًا بعد يوم، وأيضًا لأن أغلب أهلي يقيمون في العديد من الدول، وكذلك أصدقائنا أنا وزوجتي، فكانت فكرة الهاشتاج مناسبة جدًا".

"مارية" ليست أول تجربة لـ"حجازي" مع التوثيق الإلكتروني؛ إذ واصل الأب الشاب حديثه قائلًا: "أنا وزوجتي كنا نقوم بتوثيق حياتنا اليومية منذ أيام خطبتنا، وذلك بهدف رصد تفاصيل حياتنا السعيدة والصعبة في نفس الوقت، وبعد أن تم زواجنا بأبسط التكاليف، تطوّر الهدف لدينا بإعطاء جميع محبينا أمل في غدٍ أفضل، من خلال توثيق حياتنا ومراحل نضوج ابنتنا مارية".

ويتابع "حجازي": "في البداية كان بعض الأهل والأصدقاء يوجهون لنا النصيحة بعدم نشر صور مارية على السوشيال ميديا، بدافع أن الحسد موجود، وأن العين كما يقال قسمت الحجر، ولكن دائمًا ما كان جوابي أن الله هو الحافظ، وأنه قال في كتابه العزيز؛ (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، وبفضل الله مارية بخير وبصحة طيبة، على الرغم من ربط البعض بين إصابتها بالمرض في بعض الأوقات ونشر تلك الصور، إلا أن كم الرسائل الضخم الذي يصلنا يضيف إلينا حالة من البهجة ويدفع عنا جميع الهموم، ووصل الأمر لمرحلة أن الناس تسأل دائمًا حال تأخرنا عن رفع صور جديدة".

وتعهد "حجازي" لصغيرته مارية: "في يوم من الأيام، سأطبع جميع صور مارية منذ لحظة ولادتها في ألبوم صور وسيكون في المستقبل بمثابة تحفة فنية وسط التطور التكنولوجي حينها، وسأهديه لابنتي كهدية في عيد ميلادها، أو عقب تخرجها وانطلاقها لبدء حياتها العملية، ومن يدري ربما يكون هذا الألبوم هو هدية زواجها".

مخاوف من التجربة رغم فوائدها

ومع كل لحظة سعادة بذاكرة الصور على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يخفي "محمد علي الدين" خوفه من التجربة: "أعتقد أن نشر صور الأبناء موضوع إيجابي، وهو أقرب من طريقة أهلنا قبل ظهور الإنترنت في الاحتفاظ بالصور الخاصة بنا، وعرضها في ألبومات ورقية، غير أني أتحفظ قليلاً على فكرة إنشاء حسابات خاصة للطفل على مواقع التواصل الاجتماعي منذ طفولته، لأنه من الوارد جدًا أن تنتهي مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر انتشارًا حاليًا في المستقبل وتحل مكانها وسائل أخرى".

وحول طريقة توثيق مراحل نمو ابنه "مالك"؛ يضيف "علي الدين" قائلاً: "عادة ما أنشر صور ابني على موقعي فيسبوك وانستجرام، لكن بعدد محدود لأن حساباتي في هذين الموقعين مفتوحة للجميع، وبالتالي يمكن لأي شخص الاطّلاع عليها، ونحن في زمن انتشرت فيه جرائم تستهدف الأطفال، وبالتالي قد يكون ولي الأمر بذلك يتيح صورًا أطفاله بسهولة شديدة لأشخاص قد يسيئون استغلالها".

وعن ردود أفعال الصغير "مالك" عند رؤيته لكل صورة تم تويثقها له في الصغر، قال "علي الدين": "أوثق معظم المراحل العمرية الخاصة بابني وكذلك بعض المناسبات المهمة وأحفظها على حاسوبي الشخصي، والآن بعد أن بلغ ابني عامين وستة أشهر أصبح يستطيع تمييز الصور، لذا فأنا أعرضها أمامه وأرى مدى تفاعله معها، كما أتعمد أحيانًا ألا أعرض كل ما أصوره حتى على أفراد الأسرة كي تكون هذه الصور مفاجئة سعيدة في المستقبل".

التوثيق بعيدًا عن الإنترنت أفضل

بتحفظ ملحوظ، تحدث "أحمد عادل" عن تفاصيل توثيقه لحياة ابنته "أيتن"، قائلاً: "منذ مولد ابنتي، كنت حريصًا على توثيق معظم لحظات حياتها في كل حالاتها؛ البكاء، الضحك، والنوم، وذلك عن طريق تصوير مجموعة متنوعة من الصور والفيديوهات، حتى أنني في عيد ميلادها الأول طبعت ملصقًا كبيرًا صممته من 12 صورة مختلفة مثلت الشهور الـ12 من حياتها وعلقت ذلك الملصق يوم الحفل".

وعن توثيق تلك الصور عبر السوشيال ميديا، يقول "عادل": "لا أنشر الكثير من الصور الخاصة بابنتي على وسائل التواصل، وذلك لمروري بتجربة سيئة في كل مرة، حيث كانت تعاني من مرض مفاجئ كلما نشرت صورة لها، وهو ما جعلني أربط بين نشر تلك الصور على السوشيال ومرضها، فأنا بالطبع أؤمن بالحسد لأنه مذكور في القرآن الكريم، كما أنني لا أرغب في حدوث أي مكروه لابنتي".

محاولة لجمع التعليقات والإعجابات فقط

تقول مروة رفعت: "أعتقد أن توثيق الأهل للحظات حياتنا في الماضي كانت أفضل بكثير من الوقت الحالي، وذلك لأنهم كانوا يعيشون تفاصيل كل لحظة على حدة، ثم يوثقونها في ورق مكتوب، حتى نستطيع نحن قراءتها لاحقًا ونطلق لخيالنا العنان في تصور تلك اللحظات، أما الآن فالموضوع أصبح بلا روح، حيث يتم توثيق اللحظات عبر السوشيال ميديا لمعرفة عدد مرات الإعجاب والتعليقات، حتى أصبح الأمر روتينيًا بشكل كبير، ومن جانبي أشارك أبي وأمي بما أقوم به على وسائل التواصل غير أنهم من الجيل القديم الذي لم يتأثر بوسائل التواصل ولم يلتفت إليها من الأساس".

وعن رأيها في فكرة التوثيق، وهل سترصد بعد الزواج والإنجاب اللحظات المهمة في حياة أبنائها عبر السوشيال ميديا؛ تقول "مروة": "دائمًا ما أنصح صديقاتي اللاتي على وشك الإنجاب برصد اللحظات المهمة اللاتي يشعرن بها مع أزواجهن، من خلال كتابة ذلك في لوحة كبيرة، والابتعاد عن عالم السوشيال ميديا، لأنه من وجهة نظري عالم تحكمه علامة الإعجاب وكلمات التعليقات، فيتحول الأمر كأننا نوثق لغيرنا لنحصل على رضائهم وإعجابهم هم وليس أبنائنا، لذا أُفضل أن تكون تلك الذكريات بين الأهل وأبنائهم فقط، وهذا ما سأفعله مع أبنائي في المستقبل".

الخوف من الحسد

يرى عمر إبراهيم أن مسألة توثيق الآباء لأبنائهم يجب أن تكون مقتصرة على الهاتف المحمول والحاسب الشخصي فقط، والابتعاد عن السوشيال ميديا؛ لأن تلك الصور قد تسبب حالة من الإحراج لأصحابها وسط أصدقائهم، وهذا لا يعني أن الفكرة بمجملها سيئة فيكفي أن يكون هناك أرشيف إلكتروني متوفر في أي وقت، مبينًا أنه قد يحب في المستقبل توثيق لحظات أطفاله عبر السوشيال ميديا.

وحول طبيعة علاقة الأهل معه عبر السوشيال ميديا، يقول "عمر": "عادة لا يطلب مني أبي وأمي عدم نشر أي صور خوفًا من الحسد وهو أمر متوارث عبر الأجيال، ولكنهم يدعون لي في التعليقات، موضحًا أن اختلاف الأفكار بين جيل الآباء والأبناء قد يجعل هناك فجوة في العلاقة عبر السوشيال ميديا تظهر بشكل جلي في طبيعة التعليقات التي تحمل بساطة الألفاظ والتعبيرات، وسط مجتمع لا يرى ولا يسمع ولكن يشاهد فقط التعليق ويخمن ما وراءه".

قضاء وقت أطول معهم له الأولوية

من جانبه؛ يرى إسلام النجار أن هناك شيئاً آخر لا بد أن يضعه الآباء في حسبانهم، حيث قال: "الاحتفاظ بالذكريات أمر رائع سواء على البريد الإلكتروني أو مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ربما الأهم هو ضمان الاهتمام بقضاء وقت أفضل مع الأبناء، وينصب الأمر على مسألة التصوير أو كتابة الرسائل، لأن في النهاية الأهم هو ما يحتفظ به الابن في عقله من ذكريات، وليس ما يسجله الأب".

وأضاف "النجار": "ما قد يعتقد الأب أنه أمر رائع بالنسبة لطفله، قد يكون على العكس أمر يكرهه أو يحمل معه ذكرى سيئة تظل معه حتى يكبر".

ظاهرة غير صحية

وتحذر أماني أبو النجا من فكرة توثيق حياة الأبناء على السوشيال ميديا، لأن فكرة ربط الطفل بمواقع التواصل وهو صغير غير صحية بالمرة، فالطفل يجب أن يعيش عمره، ويدرك مشاعر محبة والديه إليه بعيدًا عن سيطرة مشاعر السوشيال ميديا المزيفة التي تخلق في الطفل رغبة شديدة لمحاولة إرضاء غيره، لينال إعجاب أو تعليقًا جزاءً له.

ووجهت النصيحة لجميع الأمهات بمحاولة شغل فراغ الطفل بالألعاب المفيدة والمسلية، التي تساعد على تنمية ذكائهم وفي نفس الوقت محاولة التدرج في شرح فوائد وأضرار وسائل التواصل الاجتماعي، حتى لا يقع أبناؤنا ضحايا لعالم السوشيال ميديا من خلال ربطهم به.

إخصائية نفسية: لكل طفل عالمه الخاص ولا يجوز اقتحامه

تقول أميرة محمد، الإخصائية النفسية: "لكل إنسان حياته الخاصة به وكذلك الطفل أيضًا له عالمه الخاص، بدليل أن كثيرين ينظرون إلى بعض صورهم وهم صغار بنظرة عدم رضا، بل يحرصون على إخفائها عن أصدقائهم، والآن مع التطور التكنولوجي أصبح من السهل أن يحتفظ أي شخص بصورك الخاصة لسنين مقبلة، كما أنه غير صحيح أن يختار الآباء نيابة عن أبنائهم بأن يوثقوا صورًا لهم قد تؤثر في حالتهم النفسية في المستقبل".

وتشدد "أميرة" على أن كل طفل له عالمه الخاص الذي لا يجوز اقتحامه، فاللحظات الخاصة بالطفولة بما فيها من تصرفات تلقائية وعفوية لا يجوز توثيقها ونشرها، يمكن الاحتفاظ بها ولكن لا يجوز نشرها، حتى لا تؤثر في علاقة الطفل بأسرته، كما أن الطفل مخير لو كان عمره يسمح، فليس من حق الأب أو الأم التصرف بالنيابة عنه فيما يخصه؛ لأن هذا يساهم في ضعف شخصيته فيما بعد".

إخصائية علم النفس: تسلب حق الأطفال في الاختيار

تقول د. فدوى القرشي، إخصائية علم نفس بالمركز الألماني للأعصاب في دبي: "أعتقد أن مسألة التوثيق عبر السوشيال ميديا تسلب الأطفال حقهم في الاختيار وتعرضهم لبعض الأخطار، حيث إن نشر تلك الصور على الفضاء الإلكتروني يجعلها متاحة للجميع وليس لدى الآباء أي قدرة على معرفة من يرى تلك الصور وماذا سيفعل بها، هذا بخلاف أننا نفقد الطفل خصوصيته بهذا الأمر".

وتوضح الفرق بين الطرق التقليدية والحديثة في التوثيق، تقول "د. فدوى": "إن وسائل التواصل الاجتماعي تشمل الجميع بمن فيهم من ليسوا بأصدقاء أو تربطنا بهم سابق معرفة، لذا قد تكون هناك خطورة أن نفقد تلك الصور بسبب الاستعمال الإلكتروني الخاطئ، وهذا أمر صعب الحدوث مع الوسائل القديمة، كما أن خطورة التوثيق الحديث تكمن في توفير معلومات خاصة بالطفل قد تشكل خطورة على أمنه وسلامته".

وتابعت "د. فدوى" أنه يجب "التأكد من أن المواقع التي يتم توثيق الصور عليها خاصة وليست مفتوحة للعامة، كما يجب حفظ أغلب هذه الصور في أماكن آمنة وحسابات مغلقة، وأيضًا عرض الصور الأقل دلالة على حياة الطفل ومعلومات خاصة به أو بمحيطه، وتجنب الصور التي قد تكون محرجة للطفل عند الكبر أو قد يستعملها بعض الأطفال لممارسة نوع من العدوانية عليه، فنحن لا نعرف كيف ومن سيستعملها عند صغره أو كبره؟".

طبيب نفسي: ستجعل الطفل استعراضيًا وتعرضه للاكتئاب

ويعتقد د. عبد العظيم رمضان، الطبيب النفسي، أن الطفل قد يتأثر في علاقاته المستقبلية سلبًا أو إيجابًا بعملية التوثيق الإلكترونية، موضحًا الفارق بين التوثيق قديمًا وحديثًا قائلاً "التوثيق قديمًا كان صعبًا ويحتاج لظروف وتجهيزات معينة، أما اليوم فأصبح الأمر متاحًا في أي لحظة وأي مكان، وكذلك أصبح التوثيق لجميع التفاصيل الصغيرة الموجودة، وهو ما يصح أن نطلق عليه "هوس التوثيق"، وفي الماضي كان التوثيق للذكريات الجميلة فقط أو المناسبات الخاصة على فترات متباعدة، وبذلك كانت تظل الذكرى الجميلة في إطار أصحابها فقط، أما الآن ففي عصر السوشيال ميديا أصبح التوثيق متاحًا للجميع وبدون خصوصية".

وأضاف: "نفسيًا نستطيع أن نقول إن التوثيق الإلكتروني يجعل الطفل معتادًا على عدم الفصل بين ما هو خاص وما هو عام، كما يخلق داخله شخصيات استعراضية لديها الاستعداد الكامل لعرض حياتها كاملة أمام الجميع، بما فيها جميع التفاصيل اليومية، وهو ما قد يكون أقرب لما تفعله شخصيات تليفزيون الواقع".

[gallery columns="2" size="medium" link="file" ids="15786,15787"]