صبحة بغورة تكتب: المدارس المستدامة

امتد مفهوم الاستدامة في مجال التنمية الاقتصادية إلى الانتباه لأهمية دور قطاع التعليم في تأهيل أجيال مؤمنة بهذا المفهوم لتتعامل وفق منطقه في مجالات التنمية والانتاج والبيئة وعليه ارتفعت الأصوات المطالبة بتطوير التعليم لتأدية الدور الجديد فتجسدت ما يسمى "المدارس المستدامة".

تعني الاستدامة في أبسط تعريف لها من المنظور التعليمي أنها منهجية تعليم وتعلم تشمل مختلف التخصصات في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية المتكاملة في محتوى المنهج الدراسي من أجل تعزيز معارف التلاميذ والطلاب وتنمية مواهبهم ودعم خبراتهم بما يؤهلهم لأداء دورهم المؤثر والفعّال في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

كان تقرير صادر عن فريق عمل تابع إلى منظمة "اليونسكو" قد أكد منذ سنوات على "أنه إذا أردنا جعل كوكب الأرض أكثر اخضرارا ومستقبلنا مستدام للجميع فعلينا أن نطالب نظمنا التعليمية بأكثر من مجرد نقل المعرفة ، إننا بحاجة إلى أن نركّز في مدارسنا على آفاق اقتصادية بيئية واجتماعية تساعد على تكوين مواطنين يتمتعون بقدرات كبيرة وكفاءة عالية".

وكانت المديرة العامة السابقة لليونسكو إيرينا بوكوفا قد شددت على ضرورة "تحقيق تغيير جذري بشأن دور التعليم في تحقيق التنمية لأن للتعليم تأثيرا كبيرا على رفاهية الأفراد من جهة، ومستقبل مجتمعاتنا من جهة أخرى".

وقوبلت هذه الدعوات وغيرها بردود فعل عالمية متفهة ومرحبة تبعتها أصداء تطبيقية جادة حتى وإن بقيت بعضها في مرحلة الاختبار والتجربة، والحقيقة أنه لكي يتحقق تطبيق مفهوم المدرسة المستدامة على أرض الواقع لابد من اتباع إجراءات أقرب إلى الشروط الضرورية المعتمدة من طرف الهيئات التعليمية والمنظمات الدولية المتخصصة يتعلق بعضها بتطوير محتوى المناهج ودمج قضايا التنمية المستدامة فيها، والبعض الآخر بالممارسات والأنشطة التي يتفاعل معها الطلاب، وآخرون بمواصفات المباني التعليمية وتصميمات الإنشاءات المدرسية، وكلها معايير تستغرق وقتا لتعتمد ثم لتكون محل التنفيذ وتوضع موضع الاستغلال.

البصمة البيئية

ولتقييم أداء المدرسة المستدامة وقياس ما حققته من أهداف، تم اعتماد ما يسمى بـ"البصمة البيئية" وهي أداة تستخدم فيها عمليات حسابية لقياس الموارد التي يتم استغلالها واستهلاكها ومتطلبات استيعاب ما يتخلف عن مجموعة بشرية ما ثم إعادة تدوير المخلفات، وتشتمل "البصمة البيئية" في المؤسسات التعليمية على الفائض من الطاقة المستخدمة، ومساحة الفضاء أو البنى التحتية، وما يستهلك من موارد وخدمات بيئية، وتزداد أهمية البصمة البيئية لكونها أهم أدوات قياس عامل الاستدامة؛ إذ يسترشد بقياساتها في توجيه الأفراد والمؤسسات وإشعار الحكومات للاستفادة من الموارد على نحو أكفأ، ويظهر المؤشر الإيجابي للبصمة البيئية لدى جموع الطلبة من خلال توافق سلوكياتهم الحياتية اليومية مع مصادر المياه والطاقة مثلا، من خلال حجم استهلاكهما ومدى اسهام جهود الطلبة في حماية البيئة من التلوث وكيفية التخلص الآمن من النفايات أو إعادة تدويرها، وتعميق الوعي بإجراءات الحفاظ على الصحة العامة والوقاية من الأمراض، وصيانة الحياة العامة وتنوع الأحياء، بمعنى حفظ حق الأجيال الناشئة من الموارد الطبيعية سليمة وغير ناضبة.

الحديث عن المباني المدرسية صديقة البيئة يتضمن قائمة طويلة من المعايير والشروط، والمحددات الطبيعية للبيئة المحيطة خارج المدرسة ومدى تحكم البيئة داخل المدرسة، وتسبيقا لذلك أصبح اختيار موقع بناء المدرسة يخضع لاعتبارات كثيرة منها الابتعاد عن كافة مصادر التلوث، وسلامة الطرق المؤدية إليها من تعبيد ورصف وتشجير والعناية بالأسوار الخضراء للمدرسة، وغرس المزيد منها كستارة طبيعية حامية من الغبار والأتربة والانبعاثات الغازية والملوثات الجوية وغيرها التي تنتقل بفعل الرياح، إن في تشكيل البيئة المدرسية وما يحيط بها حافز لتشكيل الذوق الجمالي الرفيع في نفوس الأطفال وتشجيع حاجتهم للتجميل والتنظيف والتنسيق والترتيب داخل فصولهم وقاعات الدراسة، وهنا تؤدي التهوية الجيدة والإضاءة الكافية المدروسة لأرجاء القاعات والطلاء الزاهي للجدران دورا فعّالا في تنشيط همم الطلبة وبعث بهجتهم، ولا يقتصر دور المدرسة المستدامة عند هذا الحد بل يمتد إلى توفير وسائل التنشيط البدني والفكري وأجواء الترويح النفسي وتنمية المواهب الأدبية والفنية بمختلف ألوانها التشكيلية والموسيقية والحرف اليدوية، ويستحضرنا هنا تطوير تصميم الفناء المدرسي بما يتجاوب مع هذه الطموحات من اتساع وتشجير وملاعب، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى ضرورة وجود مكتبة مدرسية تتوفر على أكثر ما يمكن من الكتب والدوريات والمطبوعات التي تخدم أهداف التثقيف بصفة عامة والتربية والتعليم.

إن النزاهة تقتضي الاعتراف بأن المنظومة الحالية قاصرة عن خدمة أهداف التنمية المستدامة، وأن قدرة المناهج الدراسية التقليدية عاجزة على تلبية مطالب الاستدامة، لذا يكون من الضروري التوجه إلى تعديل المناهج بتطويرها من خلال التوسع نحو دمج المزيد من قضايا التنمية المستدامة لتواكب التطورات العلمية المتلاحقة وتناسب المتغيرات الطارئة العلمية منها والاقتصادية التي تلقي بانعكاساتها على الوضع الاجتماعي وتؤثر على المستوى الثقافي، وطبيعي أن تكون.القضايا المتعلقة بتغير المناخ والاحتباس الحراري وسبل الحد من وقوع الكوارث البيئية، وجهود حماية التنوع البيولوجي واجراءات مواجهة تهديدات انقراض بعض الأنواع الحيوانية والنباتية، والحد من الفقر، ومضاعفة الانتاج الحيواني والنباتي وانتاج الغذاء الصحي وضمان الاستهلاك المستدام، في صدارة محتوى المناهج الدراسية لتعميق الوعي بحيوية مفهوم الاستدامة، من خلال تنمية ملكة الملاحظة ومهارة التفكير وجدية النقد الموضوعي للإسهام في دراسة البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية في السياق العام للتنمية المستدامة، ومنها تطوير القدرة على استشراف المستقبل والتصور، وإكساب مهارة التفكير المنهجي بداية من الاعتراف بوجود المشكلة وإدراك مدى تأثير أبعادها، والاتجاه نحو البحث عن روابطها وتقييم العلاقات المتصلة بها ومن ثمة تعلم إقامة وبناء الشراكات وتعلم العمل الجماعي، وتعزيز الرغبة في التواصل وتنمية روح الحوار وإكتساب مهارات التفاوض.

لقد أقرت النرويج استراتيجية للتوسع في التنمية المستدامة تقوم بوضع التعليم وتطوير المناهج أحد العناصر الرئيسية فيها، واعتبار أن المدرسة ركنا أساسيا من أركان تحقيق التنمية المستدامة.

وفي كولومبيا تم تطبيق مفهوم "العيش البهيج"؛ حيث يشارك السكان بالقرى التقليدية في المشاريع البيئية الحضرية المستدامة وفي نظم الانذار المبكر من الكوارث الطبيعية والتكيف مع تقلبات المناخ .

واعتمدت التجربة اليابانية على نظام "توكاتسو" التربوي الصادر عن جامعة طوكيو؛ حيث تتوسع فيه مجالات وأنشطة تنمية الشعور بالجماعة والمسؤولية تجاه المجتمع والبيئة المدرسية المحيطة.

واتجهت اندونيسيا نحو تطبيق المدارس المستدامة منذ عام ٢٠٠٩ بمشاركة القطاع الخاص؛ فبرزت "المدارس الخضراء". وفي بدايات عام 2012، أطلقت المملكة العربية السعودية برنامجا باسم "مدارس الحس البيئي" في إطار الاتجاه الاستراتيجي الخاص بالتوعية البيئية والتنموية وتكوين جيل مؤمن بأهمية التنمية المستدامة وبعلاقتها الوثيقة بجودة الحياة، وفي لفتة وطنية كريمة أعلن صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولى العهد رئيس مجلس الوزراء عن إطلاق قمة مبادرة "الشرق الأوسط الأخضر" في نسختها الثانية يوم 7 نوفمبر 2022، وعن تنظيم "منتدى السعودية الخضراء"؛ وذلك بهدف بحث ودراسة مشروع زراعة 10 مليارات شجرة في كل أنحاء المملكة على مدى السنوات القليلة القادمة.

كما بدأت مصر في تطبيق مشروع بناء جيل جديد من أجل التنمية المستدامة، وتم إعداد مراكز تدريبية وتجهيزها بالتقنيات والمعدات لتدريب المعلمين على طرق التدريس الحديثة بالتركيز على محاور الطاقة الجديدة، الزراعة الحيوية، التنوع البيئي، التوازن الإحيائي، مصادر المياه، وكيفية الحفاظ على الكم وجودة النوع.

وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تم إطلاق مبادرة "المدارس المستدامة" لتعزيز التوعية البيئية من خلال تعديل المناهج الدراسية وتدريب المعلمين والتوسع في المجالات والأنشطة المستدامة، والتدرب على الاجراءات المناسبة لتوفير اطاقة والماء.

إن الاتجاه العالمي المتعاظم للتوسع في منظومات المدارس المستدامة بدأ يتأكد بالفعل في العديد من دول العالم بالبدء في بذل الجهود الجادة لتحويل المدارس التقليدية إلى مدارس مستقبلية مستدامة على أساس التعاون بين المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص من أجل تحقيق الهدف المنشود المشترك، جودة الحياة على أرض الواقع.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: قضايا المرأة السعودية في السينما والمسرح