صبحة بغورة تكتب: التـرابط الأسري.. عندما نستحضر ما هو مفقود

فاقمت تعقيدات الحياة في عصرنا الحالي من حدة التفكك الأسري وباعدت وسائل الاتصال والتواصل الحديثة بين أفراد الأسرة الواحدة حتى داخل المنزل الواحد، هذه حقيقة نعيشها يوميا ونعاني من آثارها السلبية العاطفية والاجتماعية.

التـرابط الأسري لقد أصبح الكثير منا يفتقد دفء الترابط الأسري ومتعة الوجدان العائلي ومعه حدثت الخلخلة في السيرورة الطبيعية اليومية للأسرة وجرى شرخ ذلك الاستقرار النفسي بين الزوجين وفي نفوس الأبناء الذي نجم عنه بروز سلوكيات جديدة ومستحدثة لا تؤسس لعلاقات أسرية طيبة وسليمة ولا تحقق التوازن النفسي والأخلاقي والاجتماعي، وطبيعي أن يحدث ذلك بنسب متباينة بين كل أسرة وأخرى لاختلاف طبيعة الوسط الاجتماعي والمستوى الثقافي والقيم السائدة والتي ستلقي حتما بظلالها على ظروف المعيشة وطريقة التربية داخل كل أسرة على حده.

وتكمن خطورة التفكك الأسري في زوال الخط الفاصل بين حدود المسموح والممنوع، وغلبة الأسلوب التسلطي والانسحابي في التربية على الأسلوب التفاهمي، الذي يعني فرض تنفيذ أوامر الأهل بدون نقاش على الأسلوب القائم على التواصل والتفاهم وحرية التعبير عن الرأي في إطار نظام حازم، وهذا ما يدفع الكثير من النشء إلى اتخاذ مواقف عدائية معارضة والتعبير عن ضيقهم بردود فعل حادة كعدم الإكتراث للنظام العام وعدم الالتزام بالقوانين.

يشعر الكثير من الآباء بأنهم أخفقوا في تربية أبنائهم وأنهم عاجزون عن وضع خطة تربوية سليمة لهم وأنهم لم يعد بمقدورهم السيطرة عليهم؛ حيث كشف تفشي وباء كورونا عن أمراض اجتماعية عديدة كانت خافية ومخفية في أوحال زحمة الحياة التي ستتكشف طبيعتها المتوحشة خلال الأزمات كأفعى سافرة تكشر عن أنيابها السامة بمختلف الأشكال المحرمة والمجرمة، يقوم بها مراهقون تركوا مقاعد الدراسة مبكرًا وآخرون تم الاستغناء عن خدماتهم؛ لتقليص نفقات الأجور، وبعضهم عجز تمامًا عن الالتحاق بمواقع عملهم لتوقف حركة المواصلات في إطار الحجر الصحي الإجباري، وعائلات وجدت نفسها إلى جانب أثاثها ومتاعها بالشارع لعجزها عن دفع إيجار المنزل، وفي المقابل ينشط أثرياء الأزمات الذين يصطادون في الماء العكر لتعظيم ثرواتهم.

وقد تكون مثل هذه الشدائد والظروف الصعبة فرصة لكل والدين من أجل التأمل في موقفهما من أهم أمور الحياة، ومراجعة النفس حول ترتيب الأولويات التي كانت جديرة بالاهتمام، ومنها: هل كان الأب مُخطئًا حين أجبر ابنه الأكبر على ترك مقاعد الدراسة مبكرًا ووجهه للعمل للمساعدة في تحمل نفقات البيت وهو مازال في سن يحتاج لمن يرعاه؟ هل سأل الأب يومًا عن مصدر ما لدى ابنه من مال وهو يعلم أنه لا يعمل ..؟ ألم تتألم الأم وهي تتسبب في انقطاع ابنتها عن مواصلة الدراسة حتى تساعدها في تربية اخوتها الصغار؟.

هناك من اضطرته جائحة كورونا إلى أخذ ابنه من يده إلى مراكز معالجة الإدمان من المخدرات الناتج عن الفراغ وحب الكسب، أطفال ضحايا لواقع اجتماعي سيء ووضع أسري غير متماسك، في حين أن عملية التربية بناء ورعاية وإصلاح وحرص متواصل على تنمية مدارك الأطفال، والتدرج في إرشادهم إلى سبل الخير وإبعادهم عن مجالات السوء، وغياب الرقابة الأسرية أمام سطوة القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي والانترنيت.

جميعها تحديات ذات سلاحين، السيئ منها يدمر السلامة النفسية ويهدم المنظومة الأخلاقية للأطفال بل ويضعهم على عتبة طريق الانحراف عن سواء السبيل؛ حيث يميلون إلى الفساد وارتكاب المعاصي وعدم الاستماع للنصائح والتوجيهات السديدة ، وإذا ما ساءت معاملة الوالدين لأطفالهم خاصة صغار السن منهم كثيري الصياح وشديد الانفعال والمشاكسين قليلي النوم والمعاقين حركيًا، كان ذلك من العوامل التي تزيد من احتمالات تعرضهم للانحراف والفساد، وعدم توجيه الأطفال التوجيه السليم لاستغلال أوقات الفراغ؛ يدفع المراهقين منهم نحو مصاحبة رفقاء السوء؛ حيث يجدون معهم متعة المصاحبة في إطار مفهوم العصابة.

تعتبر حالات الطلاق من أهم عوامل انحراف الأطفال وتشردهم وانغماسهم في أوحال الرذيلة والجريمة وعادة ما تبدأ الأمور بمعايشة النزاع المستمر والشقاق المتواصل والصياح في توجيه الاتهامات وتبادل إلقاء المسؤولية عن الأخطاء، ثم باستعمالهم في إيصال وتبليغ رسائل الكره والكيد بين المطلقين التي تنتهي بتوقف الأب عن دفع النفقة، وعدم الاهتمام بمطالبهم، وهو ما يضطرهم إلى سلوك سبيل آخر لتلبية احتياجاتهم كالسرقة والاعتداء على الغير.

إنه الجنوح الذي يتعاظم شرره؛ ليضع المجتمع كله أمام مسؤولية التصدي له ومواجهته ومحاصرته، وطبيعي أن تكون البداية من داخل الأسرة نفسها وإرشادها إلى طرق استعادة الهدوء والاستقرار والسيطرة على الخلافات خاصة بين الوالدين ومراقبة سلوك الأطفال والتعرف على أصدقائهم.

وتلعب الجمعيات دورًا هامًا في عملية التكافل الاقتصادي والاجتماعي مع الأسر الفقيرة وتقديم الدعم المادي والمالي والمعنوي لها، ومحاولة دمج الأطفال الجانحين في النشاط الاجتماعي المثمر بشكل مباشر للعودة التدريجية به إلى حياته الطبيعية.

كان الترابط الأسري منذ عقود ذات قداسة، وللحضور الأبوي في حياة الأسرة هيبته ووقاره واحترامه، كلمة الأب مسموعة ومواقفه حاسمة وقراراته حازمة لا رجعة فيها، الكل يمتثل لأمره طوعًا وحبًا وكرامة، وللمرأة مكانتها المحفوظة، زوجة مكنونة مصانة، وأم رؤوف حانية، وأخت وفية راعية، وكذلك الأولاد يقفون إلى جانب كتف أبيهم دعمًا له لا يعصون له أمرًا.

وصان هذا الترابط الأسر والعائلات زمنًا طويلًا نجحت خلاله المجتمعات في الصمود أمام موجات الاغتراب الوطني والانحلال الأخلاقي والمسخ الديني والتجهيل الثقافي، وللأسف لم تفتح الثغرة في جدران دفاعاتنا يد أجنبية، بل هي يد عناصر وطنية وقعت ضحية جهلها فريسة لمؤامرات تفكيك أسر أوطانها.

 

اقرأ أيضًا.. صبحة بغورة تكتب: تحضير الطفل للدخول المدرسي