صبحة بغورة تكتب: صراع الأجيال.. أزمة قيم أم سوء فهم؟

إنها قضية كل عصر، وهاجس الأجيال المتعاقبة في كل وقت، وهي القضية التي شغلت المهتمين بالتربية وخبراء علم النفس طويلًا، هل هي أزمة قيم، أم سوء تقدير وفهم..؟ هل هي الحداثة التي تتنكر للأصالة؟ أم التمسك بما ألف عليه الآباء هو الذي يرفض كل تغيير بداعي الحداثة؟

الواقع العملي المعاش، يؤكد أنه لا تزال مظاهر الفجوة بين نمطي التفكير عند الآباء والأبناء قائمة بل آخذة في الاتساع أكثر من ذي قبل، إنها قضية كل مجتمع التي احتدمت منذ عصر النهضة وتجددت بأشكال متفاوتة على مدى السنين حسب درجة التطور الحضاري للمجتمعات.

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: النساء في مواجهة كورونا وعنف الأزواج

وفي عصرنا الحديث الذي يموج بطفرة هائلة من المتغيرات المتتالية والسريعة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، تغيرت حياتنا معها وعلى وقعها تغيرًا شاملًا وعميقًا في مختلف جوانبها، فكان للتطور العلمي والمعرفي تأثيره الواضح على تبدل القيم وتحول الاتجاهات.

ولئن كان التطور سنة الحياة فإن تدرجه وهو الاعتبار الأساسي لضمان الانتقال المنطقي الهادئ في أنماط السلوك وفي درجات التفكير كان في الحقيقة مباغتا لمجتمعاتنا العربية ومتسارعًا على نحو يفوق قدرة فهم ماهية وظائف أدوات هذا التطور، وصعّب معه استيعاب كيفية أخلقة استعمال الانجازات العلمية وتطبيقاتها العملية خاصة في أوساط الشباب المراهق من دول العالم النامي عامة.

فهؤلاء الشباب ـ كآبائهم ـ يعيشون حقب التخلف عن شباب دول العالم المتقدم الذين سمحت لهم ظروف دولهم أن يتدرجوا نسبيًا مع التغيير وتكيفوا بشكل أو بآخر مع متطلباته، أما شباب الدول المتخلفة المستوردة للأجهزة التكنولوجية فإنهم يصدمون بأبسط ما يقع تحت أيديهم، مما سمحت بتصديره شركات الدول المنتجة لها، فتوفر هذه المنتجات في الأسواق يحدث عادة على فترات متباعدة ودون تهيئة نفسية لاستقبالها بمعنى استعمالها بالمعايير الأخلاقية التي من أجلها تم صنعها فيحدث سوء استغلال يؤدي إلى بروز مظاهر سلوكية غريبة تتناقض في الكثير منها مع القيم الاجتماعية والدينية السائدة ولا تتفق مع المبادئ الوطنية الثابتة.

اصطدام محتوم

هنا، يقع الاصطدام بين جيل الآباء المتأثر بالموروث الثقافي فكرًا وسلوكًا والغارق في توفير ضروريات الحياة، وبين جيل الأبناء المتلهف لاقتناء الكماليات أولًا وعلى حساب الأولويات، فالشغف بكل جديد والتطلع إلى مواكبة روح العصر يعمي البصيرة لدى الكثير من المراهقين ومعها تحتل الاعتبارات المادية صدارة اهتماماته، فصغار الأطفال اليوم تتفتح عيونهم في سن مبكرة على توجهات حديثة تحمل معايير وقيم جديدة مختلفة عن تلك التي عايشوها في كنف آبائهم.

الانفتاح الإعلامي وتطور وسائل الإعلام والاتصال وبريق تأثيرات العولمة كل ذلك سمح بالاطلاع على مختلف الثقافات وأنماط الحياة المتعددة؛ إذ لا ننكر فضل هذه التطور في توسيع المعارف وتعميق المدارك عبر السهولة والسرعة في التواصل بين أبناء القارات الستة فإن المؤسف في الأمر أن يتسم هذا التواصل بالتأثير الأحادي الجانب، أي الانجذاب الساذج لبريق حضارات دول لا يتقاسم معها الشباب العربي عقائد دينية أو قيما اجتماعية.

وينعكس هذا التأثر في اتساع الفجوة بين الأبناء والآباء إلى مستوى يضعنا أمام جيلين منفصلين فكريا ووجدانيا وسلوكيا داخل المنزل الواحد وخارجه، الأبناء من جهة يفهمون الأمور على طريقتهم الخاصة ويريدون إلغاء الحدود، يناطحون آباءهم ويناقشونهم بجرأة بعيدة عن واجب الاحترام والتقدير بل بشكل يكاد يلامس حدود التبجح، يصرون على أنهم على صواب ويعتقدون أن أفكار آبائهم تقليدية متحجرة، إنه سلوك يخفي إرادة التحرر والاستقلالية ، وتعبير عن ضيق بضغط السلطة الأبوية من أوامر ونواهي.

على الجهة الأخرى، لن يتنازل الأهل عن التزاماتهم بما تنطوي عليه من واجب الرعاية وعبء الحماية ومسؤولية التوجيه والإرشاد، وهنا تلف المنازل أجواء الغموض والضبابية فلا أحد يمكنه وضع حد فاصل للتجاذب الحاصل حتى ولو بلغ الأمر مستوى الأزمة الأسرية التي كثيرًا ما تنتهي بمغادرة المراهق المنزل كناية في أهله ودخوله إلى عالم آخر مظلم لم يتسلح له بالقدر الكافي من الوعي.

كيف يمكن الاهتداء إلى الحل الذي يكون مقبولا لدى الطرفين؟

تفترض الإجابة على هذا السؤال مسبقًا أن يكون الجو العائلي مفتوحا، أي أن يمتزج فيه صدق النوايا بحق التعبير عن الآراء بكل صراحة ووضوح.

ومن المهم هنا أن ينظر الأبناء إلى الأب والأم كطرفين متكافئين، لأن غياب هذا التكافؤ بين الأبوين أمام الأبناء قد يؤدي إلى تمردهم مستغلين ضعف أحدهما؛ لذا علينا أن نجد حلًا وسطًا وفق صيغة مقبولة وفي إطار قيم الأسرة العربية لا تفريط فيها ولا إفراط، يلتزم كل فرد بواجباته وبالتالي يجد الآباء الاحترام والحب تلقائيًا.

حينها، سيتم بفضل عامل الثقة الكاملة التعرف بسهولة على مكامن الخطأ ومنه سيجري تصور الحلول المناسبة للمشاكل بالسرعة المطلوبة، وقبل اصتطدم الأسرة بالآراء المتصلبة وتضيع بأكملها على أبواب المناقشات العقيمة. ومن الأساليب الحضارية في التربية، أن يصادق الآباء أبناءهم في إطار الاحترام وبعيدًا عن أساليب الترغيب والترهيب والتهديد ووضع العقبات التي تعكر المناخ الأسري والتي ينعكس أثرها على تماسك أفرادها وتفشي مشاعر الجحود والكراهية واللامبالاة من جانب الأبناء، ولا يخفى عمق الأثر الطيب الكبير بإظهار الحب والشكر توجيه عبارات الإعجاب والتقدير تجاه كل عمل طيب يقوم به الأطفال.

ويستطيع الآباء مساعدة أبنائهم في التمتع بنشوة تحقيق النجاح والتلذذ بنعيم الاستقرار إذا ما أحسنوا إظهار قدرًا من الحزم والضبط والتوجيه الممزوج بالعطف والحنان، ولاشك أن أهم سبيل للمساعدة في ضبط الأمور وإعادتها إلى نصابها هو المنهج الديني الذي حدد بوضوح الحقوق والواجبات.

الرسالة هنا واضحة، نحن إذ نترك منهج الله في العمل فلابد أن يتركنا قانون الله في النتيجة، وهذا هو المنطقي في الحياة، وهو أيضا الوجود المستمر بين الأطفال وتلقينهم في مرحلة طفولتهم المبكرة القيم الأصيلة والأخلاق الحميدة الذي سيسهم كثيرًا في التخفيف من عبء عملية ضبط السلوك في سن المراهقة.

ومع ذلك، ينبغي علينا فهم نفسية الأطفال خلال كل مرحلة من مراحل نموه وتفهم رغبتهم في التعبير عن مشاعرهم التي لا تعدو أن تكون محاولة إثبات وجودهم واستقلال ذواتهم، فقد يضطر من أجل ذلك إلى الصراخ و العنف والرعونة في التصرف إذا لم يجد المتنفس الذي يجب على الوالدين إيجاد سبيلا له.

وهنا تبرز فرضية هامة، وهي التربية المتوازنة التي أساسها التفاهم بين الأب والأم في أسلوب التربية وعدم التناقض بينهما لتحقيق العدالة بين الأبناء في الثواب والعقاب التي ينتج عنها معرفة الصواب من الخطأ دون إغفال ميولهم الفطرية للاستكشاف بالتعلم والتجربة، هذا مع عدم إغفال فرضية أن من نجا من العقاب أساء الأدب.

ومن الثابت هنا أن الطفل يستوعب ما يعايشه وليس ما يسمعه، أي أنه يدرك المعنى والمغزى من الأفعال أكثر من الأقوال؛ لذلك وجب على الآباء أن يكونوا قدوة حسنة لهم بالسلوك القويم والقول المهذب للمساعدة في تشكيل "الميزان الداخلي" الذي تصنعه الحياة في الإنسان وهو ميزان من العقل، والحس، والشعور، هذا الميزان القادر على الحكم، وهو أداة التمييز، فهو ميزان شكلته الأيام بحلوها ومرها، بقسوتها ورقتها في اندفاعها الجارف وحركتها البطيئة.

إن التفاهم المشترك بين الوالدين يجعلهم قدوة للعلاقة الايجابية في الحياة الزوجية هذا من جهة، ثم إن وجوده بينهما وبين أبنائهم من جهة أخرى يشكل في النهاية شعورًا عامًا بالأمن والطمأنينة في المنزل، وتوفر هذا التفاهم يعزز العلاقة بين كل أفراد الأسرة على أساس احترام السرية لدى المراهق ومراعاة خصوصياته، والنظر إلى نمو الطفل على أنه سلسلة من مراتب الاستقلالية مختلفة عن بعضها باختلاف حاجاته ومطالبه وخصائصه النفسية والجسمية.

هذا كله من شأنه أن يوطد أواصر الصلة ويقيم جسور الثقة، فيندفعون تلقائيا إلى التحدث مع آبائهم حول شؤونهم ويصارحونهم بمشاكلهم ملتمسين منهم المشورة والرأي والإرشاد بكل عفوية، حينها سيكون على الآباء واجب مساعدتهم على إشباع حاجاتهم مستغلين ما يتمتعون به من خبرة السنين ومعرفة.

ولكن حتى واجب المساعدة قد يخضع لاعتبارات خاصة؛ إذ كثير من الآباء يفرضون نتائج تجاربهم الطويلة السابقة في الحياة على أولادهم متناسين أنهم ولدوا في زمن غير زمانهم وقد لا تلائمهم كثيرًا، وعليهم هنا أن يتفهموا الأمر بالرغم من صعوبة تصور ترك الأبناء يتصرفون وحدهم فيقعون في الخطأ الذي قد لا ينفع معه أي تدارك و لا يفيد معه الندم.

يبدأ صراع الأجيال من مفهوم العبارة في حد ذاتها، فالمنزل يضم حتما جيلين مختلفين لا ينظران إلى ذات الأمور بالعين نفسها، وترديد عبارة ".. كانت في أيامنا" تتخذ بعدًا جديدًا متى وضعت في فم الوالد أو الوالدة الحانقة على منظر فلذة كبدها.

الوالدان يتمنيان الأفضل لولدهما، يحتضنانه صغيرًا يحلمان بمستقبله السعيد وبما سيكون عليه في كبره، ولكن سرعان ما تمر السنين ويعيشان كابوس تحوله إلى كائن آخر مستقل قد لا يمت بصلة إلى حلمهما، يعيش الأبوان خطين متوازيين، خط هم فيه أسرى تراكمات ما رسخ من عقيدة الماضي، وخط الصراع مع التغيير على يد أبنائهم الذين يريدون تجاوز كل الخطوط الحمراء في مواجهتهم في محاولة فرض الأفكار الخاصة بهم والتي تتميز حتما عن فكر الوالدين إن لم تكن تناقضها تماما صارخين.."لن نعيش في جلباب الآباء".

                                                                                                                            صبحة بغورة                                                                                  متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: أسئلة الأطفال الجنسية.. كيف نتعامل معها؟