صبحة بغورة تكتب: تأثير التكنولوجيا الحديثة في التنشئة الأسرية

أصبحت وسائل التكنولوجيا الحديثة في مجال الإعلام والاتصال جزءًا لا يتجزأ من تطور الحياة بشكل عام؛ إذ تُعدُّ حاجة ملحة لا يمكن الاستغناء عنها؛ بتوفير الجهد، واختصار الوقت لتحقيق أكبر إنجازات في أسرع الأوقات بأفضل ما يمكن من جودة أداء؛ من أجل تسهيل وتسريع جهود مواكبة التطور الحضاري، والمشاركة في دفع عجلة التقدم الإنساني.

وضعت التطورات التكنولوجية المذهلة، والابتكارات العلمية المتسارعة في مجالات الإعلام والاتصالات والمعلوماتية الإلكترونية، كافة المجتمعات الإنسانية أمام أهمية مواجهة تحديات مستحدثة جادة وخطيرة، تُعدُّ في أدنى مستوياتها ضرورية؛ لتعلم كيفية التعايش مع منطقها ومع إدارة شؤون الحياة، وحتمية التمتع بمستوى تأهيل دراسي علمي خاص؛ لمعرفة طرق استخدامها.

وقد فرضت ظروف التعامل مع وسائل التواصل- كعلم في المجال المهني والشخصي- كثيرًا من المحاذير، بعدما تبين أنها ككل شيء في حياتنا لها الجانبان: الإيجابي والسلبي؛ فالأول معلوم، والآخر بإساءة استخدامها لأغراض بعيدة عن البحث العلمي، والترقية الفكرية، والتطور الثقافي والمعلوماتي.

لذا نجد بعض السلوكيات المشوبة بكثير من الرفض أو على الأقل الحذر الشديد من مغبة عدم الحيطة من تأثيرات كثير من سلبيات هذه الوسائل، التي تؤدي إلى نشوب خلافات عائلية وحدوث تفكك أسري؛ نتيجة اختراق أطراف ضالة وخارجية قيم وأخلاقيات الأوساط المحافظة؛ من خلال الأفلام، والمسلسلات، والبرامج المفرطة في الأحداث، والفقرات الخادشة للحياء والحافلة بالصور الخليعة، والأغاني التافهة والساقطة، والبرامج المبطنة برسائل التشويه لحقائق الماضي وسيرورة التاريخ، والمشككة في حاضر الأمة ومستقبل شعبها؛ للتشويش على العقول، وهز ثقة ضعاف النفوس في هويتهم وزلزلة ثباتهم، إنه احتلال للعقول والقلوب.

لقد باتت التكنولوجيا اليوم في متناول الجميع، بغض النظر عن تفاوت مكاناتهم الاجتماعية، وتباين مستوياتهم الاقتصادية، واختلاف أعمارهم.

وإذ ترى الأطفال هم الأشد إقبالًا على اقتناء الهاتف النقال وأجهزة الكمبيوتر صغيرة الحجم، فإنك تراهم الأسرع تعلمًا وإتقانًا، والأكثر استخدامًا لمختلف التطبيقات، والأشد تأثرًا بمحتوياتها، ولديهم استعداد لتخصيص وقت طويل للجلوس أمام الشاشات، ولو كان على حساب دراستهم ومصالحهم وشؤون منزلهم.

لقد أصبح من الصعب جدًا التحكم فيهم، أو منعهم من متابعة البرامج، وباتت المسألة خاضعة لضمير كل شخص، وأخلاقه، وطبيعة الهدف الذي يريده من هذه الخدمة.

قد يهمك: صبحة بغورة تكتب: انهيار القيم

يلعب الإعلام غير الجاد دورًا هدامًا؛ باستقطاب فئة ضالة تستهويها مظاهر الانحراف، ولديها استعداد للانجراف نحو هاوية تغييب القيم وتخريب الأخلاقيات؛ ما يعني مواجهة عاصفة تكنولوجية مدمرة، ومواقع إلكترونية جاذبة، وقنوات فضائية مفروضة، وتسللًا لكشف خصوصيات وأسرار الأفراد علنًا على المواقع الإلكترونية بتطبيقات سرية وخبيثة متطورة جدًا تضع ضحاياها في خانة قهر الإرادة؛ بغرض المساومة والابتزازز.

وتحمل لنا المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية- من مختلف دول العالم- الأخبار المتعلقة بكثرة حالات الطلاق، وحوادث الانتقام، وتشرد الأطفال بسبب الغفلة وعدم الحيطة والاستهتار.

إنه التفكك الأسري السريع الذي يتعمده فاقدو الضمير؛ للتلاعب بالحرمات، والتلذذ بمشاهدة تدمير استقرار الأسر والعائلات بهتك سترهم، وبتخريب المجتمعات الآمنة. وقد تكون هوية الفاعل غير محددة؛ لأن كل شيء معلن هو في الحقيقة زائف، كما فرض تفشي هذه الجرائم السيبرانية إنشاء مصالح تقنية متخصصة بأجهزة الأمن تكافح هذه الظاهرة وتتبع مسيريها، كما توجّب إقامة علاقات تعاون دولية لمحاصرتها.

يقتضي الواجب انتباه الأهل لذلك الوضع المشين، ويفرض عليهم التقرب من مدمني الشاشات ومراقبتهم وتنبيههم لمغبة الانجراف وراء دعوات الانحراف، وتوجيههم للبرامج الجيدة، وتذكيرهم دائمًا بمتابعة البرامج الإعلامية المتطورة، والفقرات الثقافية الهادفة الصادرة من الدول العربية والإسلامية، وتجنب السيء منها.

إنَّ دخول عالم الإنترنت عادةً ما يكون لأغراض الدراسية والمهنية والعملية، وهو أمر جاد ومهم في عالم يتطور كل ساعة، كما أصبحت معظم الحكومات رقمية، واستغنت كثير من المصالح عن الملفات الورقية، وصار التواصل غالبًا عبر البريد الإلكتروني.

وطبيعي أن يحرص كل شخص على اقتناء كل ما يُسَّهِل له استخدام التطبيقات الحديثة للاستفادة منها، ولكن يبقى التردي الأخلاقي المتواصل في بعض المجتمعات يفرض سلبياته على حساب الاستفادة من منافع وفوائد التكنولوجيا الإيجابية في إسعاد حياة الناس.

إنَّ الاستخدام الصحيح أو الخاطئ للتقنيات الحديثة أمر يتعلق بالتنشئة الأسرية والتربية الجيدة المبنية على أصول الدين والأخلاق. والفرد الراشد هو المسؤول الأول عن ذاته إذا ما أراد تنمية مداركه بالاستفادة مما هو مسخر لخدمته، فإنه متى تطور فكريًا وثقافيًا ومعلوماتيَا، تطورت معه أسرته، وانعكس أثر ذلك على مجتمعه بأكمله.

يحتاج استخدام التطبيقات التكنولوجية إلى معايير مضبوطة، ونظم ثابتة بشكل لا يؤثر على المبادئ العليا والقيم السامية لمجتمعاتنا؛ فالتمادي الأعمى في استخدام تكنولوجيا وسائل الإعلام والتواصل بشكل سيء، يُفسِد النشء المُغرَم في فترة مراهقته بالتقليد؛ فيصبح لا فائدة منه لأسرته على الأقل؛ وبالتالي تصبح الأسرة فاقدة للاحترام، وغير جديرة بالتقدير عندما تجد نفسها بغير دور يُعتدُّ به في تنمية المجتمع؛ ما يتطلب تدخلًا عاجلًا من المسؤولين عن القطاع، انطلاقًا من الالتزام الأدبي والأخلاقي للدولة بالحفاظ على المجتمع من الانحدار للرذيلة والتخلف الحضاري.

التكنولوجيا محكومة بضمير كل شخص وأخلاقه؛ فالأفعال المشينة لمدمني استخدام البلوتوث والشات والفيسبوك مثلًا، ليسوا فقط من فئة المراهقين والشباب، بل من جميع الفئات السنية؛ فلم تعد التصرفات الصبيانية مرتبطة بمرحلة عمرية معينة، بل بطبيعة ذات الشخص وتربيته والتزامه الأخلاقي، فالمواقع الإلكترونية المخصصة للتعارف بين الجنسين وعروض الزواج لا تمِت بصلة لديننا الحنيف، وأعرافنا وعاداتنا وتقاليدنا؛ فلا أخالُ أحدًا يقبل لأختِه أو ابنتِه أن تدمن هذه المواقع لكي تُوقِع رجلًا في شباكها، وكيف يأمنها في المستقبل على عرضه وبيته وأطفاله؟!

لقد أحدثت الإنترنت مشاكل جمَّة داخل الأسر العربية؛ إذ تشتت العائلات بعد أن مال أفرادُها للانعزال عن بعضهم، مفضلين التواصل مع عالم افتراضي وهمي وكاذب.

لقد كان للكمبيوتر أثر كبير في تقلص المساحة الزمنية للمحادثات المباشرة والحوارات الهادفة بين الوالدين وأبنائهم، وبين الزوجين أيضًا؛ لانبهارهم بأوهام العوالم الافتراضية، والمشاعر الكاذبة، والدردشات غير الهادفة، والحوارات العمياء المشينة والمنافية للأخلاق، والتي تجر حتمًا إلى متابعة مُغريات وفواحش المواقع الخليعة.

إنَّ الانبهار الشديد بإغراءات محتوى المواقع الإلكترونية، والتأثر بأساليب بعض برامج الإنترنت، قد حرّك في نفوس كثير من الأزواج- خاصة صغار السن- حالة من الملل المستحكم، والاعتراض الدائم؛ بسبب عدم التعايش مع الروتين اليومي، والضيق من طغيان الاعتبارات المادية، وضغوط الحياة الاقتصادية، في مقابل رغبة عارمة لِلَّهث وراء الملذات، والانقياد وراء سلبيات الإنترنت، والاستسلام للمواقع السيئة، ثم انتشار الأنانية بين الأزواج.

وقد أدى هذه الوضع إلى أن أصبح الطلاق أحد المشاكل الرئيسة في حياة كثير من العائلات؛ حتى بات ظاهرة مألوفة، ومصدر تكدير بزيادة العداوة وتعميق الكراهية بين العائلات، وانعكاس أثرها البغيض على سلوك الأطفال، وعلى سلام وأمن المجتمع.

لا شكَّ في أنَّ الأمر يتطلب جهودًا مجتمعية مكثفة ومنظمة على نطاق واسع؛ من أجل توجيه الوجوه الإعلامية المؤثرة للقيام بحملات توعية دائمة بمخاطر التقليد الأعمى للظواهر الأجنبية، خاصةً التي لا تنتمي لمجتمعاتنا المحافظة العربية والإسلامية، فضلًا عن جهود النخب الفكرية من أجل التثقيف المتواصل وتوسيع مدارك النشء نحو العلم والمعرفة، مع تنظيم قوافل إرشادية بالأماكن النائية؛ لتنوير الوعي العام بفضائل الاستخدام الحسن للتكنولوجيا في تحقيق الترقية المجتمعية.

وفي الواقع، لا مهرب اليوم من واجب التعايش مع ما تهيل علينا منصات التواصل الاجتماعي المؤثرة من محتوى تختلط فيه الإشاعات بالحقائق؛ فمثل هذه الوسائل سريعة الاندماج في المنصات، وقادرة على اختراق أي مجتمع وبرمجته؛ عبر الحوار وتبادل المعلومات، وتوسيع أثرها على الأفراد والمؤسسات.

وعلى المدارس التعليمية ألا يقتصر دورها فقط على تعليم النشء العلوم والمعارف، بل أيضًا بناء نظام تربوي وسلوكي يكرس احترام الآخر والتعايش معه، ويدرك حدود الاختلاف؛ وذلك بتوفير الأجواء للحوار الموضوعي، والنقاش العلمي؛ لترقية الوعي بأهمية مواجهة المؤامرات الهدّامة، ومقاومة النوازع الفردية في تغذية المنطق الطائفي، أو التطرف العنصري، أو الاتجاه التحقيري عبر وسائل التواصل الجماهيري، وحماية المجتمع من الانزلاق إلى خدمة الأجندات الخارجية.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: المُعلَّقات.. والخلافات الزوجية