صبحة بغورة تكتب: الشخصية المبدعة عند الطفل

فضول الإنسان للعلم والمعرفة سلوك فطري لا حدود له يصاحب الإنسان منذ صغر سنه بالميل مبكرًا إلى التعرف على مكونات محيطه القريب، ثم بالاجتهاد في البحث عن أسرار البيئة المحيطة به والتفكير في طرق التعامل مع ما يصادفه من مشاكل وعراقيل ومعوقات، ومنها تتشكل في دخيلته الرغبة الجامحة في المغامرة، ثم تتنامى لديه روح التحدي الأقرب إلى المخاطرة، وتشعل نجاحاته المتعاقبة في نفسه شموع الطموح للسير في طريق التجديد والتطوير التي حفزت القدرات العقلية ومهارات الملاحظة والتأمل ومنها برزت ملكة الإبداع.

الإبداع إحدى القيم الذاتية المهمة في حياة كل فرد ومهارة خلاّقة كامنة في طبيعة كل شخصية، وهو ملكة محركة في حياة كل إنسان في جانبيها المادي الملموس والمعنوي المحسوس. والإبداع بهذا المفهوم يعني القدرة على تحويل الرؤى والأفكار والتصورات الخيالية إلى حقائق واقعية وملموسة تمنح القدرة على حل مشكلة علمية ما أو تتيح لنا التعامل مع القضايا الأدبية أو المواقف الفنية وغيرها من كافة مجالات الحياة بشكل عام بشكل منطقي، مفيد ونافع، وهو ينمو في نفوسنا منذ الصغر ولكن تطوره يتأثر بحسب طبيعة المنشأ وأسلوب التربية وحجم التجارب الحياتية التي واجهها الطفل والخبرات التي اكتسبها، وكلها تمثل معايير مرجعية لمعرفة ما يتمتع به من قدرات إبداعية، ويمكن اعتبارها كذلك مؤشرات جديدة لقياس وتشخيص ميوله المختلفة. كما يمكن وضعها في إطار تحديد المنطلقات الفكرية التي ستكشف لنا بشكل واضح أسس الإبداع ومنها سيسهل علينا تشخيص السمات الإبداعية في شخصية وسلوك كل طفل.

وتمثل دراسة نشأة الطفل ونتائج اختبار مستوى مهاراته والتعرف على طبيعة انفعالاته في مختلف المواقف أساسًا مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بدراسة الإبداع لدى الطفل، فتعدد الأفكار والرؤى وتلاحقها يسهم في تطورها وفي اتساع مجالاتها العلمية. كما يفتح الباب واسعًا أمام المزيد من الاجتهاد المتواصل والبحث العلمي الحثيث لتوسيع النظرة تجاه الإبداع والقدرة الإبداعية للطفل من أجل تعميق مستوى استجابة الطفل، ثم توجيه اندفاعه المرن لتأثير وسائل التشخيص الجديدة والمتطورة التي تستهدف توسيع وتعميق إدراك المعرفة بمعطيات البنية العامة لدالة ومفهوم الطفل المبدع.

وهناك تفسيرات لعلماء النفس بشأن تباين قوة وطبيعة العلاقة بين الذكاء الفطري والإبداع الفطري بين كل فرد وآخر؛ فهي قد تكون علاقة طرديه أو عكسية ولكل مقاييس تحدده، فالذكاء الفطري لدى البعض بمعنى الوراثة السيكولوجية، أو الإبداع الفطري بمعنى الوراثة البيولوجية، أو ما يسمى بالقدرات الإبداعية الموروثة كلاهما مرفوض لدى تفسير ثالث لعلماء النفس انطلاقا من مفهومهم أن الإبداع ظاهرة سيكولوجية من الممكن أن يتصف بها كل طفل سوي إذا أحسن توجيهه وتوفرت له الفرص الاجتماعية المناسبة وتمتع بالاستثمار الحقيقي الجيد لأقصى إمكانياته وقدراته العقلية الممكنة وحظي الطفل بالرعاية والتوجيه منذ مرحلة الطفولة المبكرة، وهو ما يعني أن الدماغ وهو عضو العمليات العقلية بما فيها الابداع يسمح لكل فرد بتقديم أفضل انتاج مبدع إذا توفرت الظروف الاجتماعية المناسبة في الاتجاه الذي يميل إليه منذ صغره. ولا تشكل التفسيرات الثلاثة ابتعادًا كبيرًا عن المبدأ العام لجوهر مفهوم الطفل المبدع بقدر ما يعني تعددا في الاتجاهات العلمية على سبيل التوسع للقياسات التي تنظر كل منها من زاويتها الخاصة لفعالية العمليات العقلية ومجرى النشاط الإبداعي.

إن محاولة تأسيس القواعد العلمية الجديدة للإبداع لا شك سيكون من الصعب معها حصر الإبداع في إطار ضيق، ولن يمكن الوقوف على دلالاته الواسعة في ظل تشعب وغموض بعض اتجاهاته، فالخصائص الإبداعية تعبر عن نفسها، في مواصفات محددة وثابتة من خلال انعكاسها على سلوك الفرد ونشاط الجماعي، والابداع أوسع ويحتاج إلى المزيد من الدقة والملاحظة والبحث والدراسة والنقاش والقياس والاختبار؛ وذلك لضمان أن يؤدي ذلك إلى التشخيص العميق المتوافق مع حقيقة وجوهر الابداع في جدية تناوله ودقة تفسيره، وهذا يعني أنه في حالة النظر إلى الطفل المبدع لمحاولة قياس وتقويم قدرته الابداعية يجب أن ننظر إليه من زوايا متعددة، وينبغي الأخذ بكل المؤشرات المتاحة لزيادة وتعميق المعرفة وضمان صحة نتائجها.

والواقع يفرض علينا ألا نغفل عن دور الابداع الفطري ودور الوراثة وتأثير التعلم وانعكاسات اكتساب المعرفة وتأثيرات معطيات البيئة المحيطة في عمليات الابداع. ودراسة وتشخيص الطبيعة الإبداعية عند الطفل هي بالأساس دراسة عامة للطفل؛ لأنها تدخل في صميم تشخيص القدرات العقلية وتقدير مستويات التفكير وحجم الذكاء واستعداداته الشخصية ودوافعه وميوله، وطاقاته الانفعالية والوجدانية وصحته النفسية والبدنية والحلقية وطبيعته السلوكية ووظائف النشاط.

ويرتبط التأكد من وجود الطبيعة الابداعية عند الطفل من عدمها بإدراك طبيعة الجهاز العصبي ومستوى الضعف العقلي والحالات المرضية التي تعوق نمو القدرات والوظائف وتكبح الدوافع الشخصية نحو التعايش والتكيف والتكامل السوي؛ مثل الاضطراب العقلي أو السلوكي أو الانفعالي أو الحركي، أو حالات عدم الثقة كالتردد والجمود وعدم المقدرة والانطوائية والانفصام في الشخصية، والسلوك العدوانية، والخوف والبلاهة. والطفل في بعض هذه الحالات يوصف بأوصاف متعددة حسب الحالة التي تسيطر عليه، فهناك الطفل المتخلف عقليا أو المضطرب نفسيا أو المعاق ذهنيا أو جسديا أو المصاب بعاهة خلقة أو الطفل الأبله أو المعتوه أو الغبي وكلها حالات مرضية جرى حصرها وتشخيصها لوضع المعالجات المناسبة لها، فقد أدت دراسة الابداع الخلاّق في نفس الوقت إلى تحديد المؤشر الدقيق لتشخيص الحالات المرضية كما هو شأن الاجتهاد المستمر أيضا في تشخيص الروح الابداعية وقياس الذكاء.

ويرتبط الحديث عن توضيح حقيقة النشاط الإبداعي للطفل بتحليل الطبيعة الآلية الابداعية الطفل وعوامل نموها وتطورها؛ من خلال الوقوف على عدة ظواهر تمثل في حقيقتها مؤشرات أساسية على سمات الطبيعة الابداعية لدى الطفل ومنها ظواهر السلوك والنشاط والدافعية والانتاج والتفكير المتطور وتقدير حجم استعدادات الطفل ومواهبة وميوله ، وكلها عوامل تعزز قدراته الابداعية لأن الميول التي تتضمن المواهب العامة هي مقدمات طبيعية للاستعداد الإنساني، والمواهب تتطور على أساس الميول في اتجاهات متنوعة تتطلب قدرات أخرى تناسب ظروف النشاط الخاص بها وهو الاستعداد الخاص الذي يفصل بين الابداع الفني والابداع العلمي على حسب المعلومة التي ينتجها التفكير وهو المنطلق الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالإبداع.

وأخيرًا، فإن بناء الشخصية المبدعة للطفل يعتبر هدفا هاما وأساسيا، وهو من بين الغايات الجوهرية الكبرى لجملة المعارف والعلوم الإنسانية المتقدمة في طرق التربية والتعليم والتثقيف التي تستهدف شخصية الطفل عبر عمليات التنشئة في واقعه الاجتماعي والثقافي والعلمي.

وتعد مهمة تحديد وتشخيص القدرات الابداعية ورعايتها مسؤولية الأسرة بالدرجة الأولى والمدرسة بشكل خاص من خلال مراقبتهم وملاحظتهم وتقويمهم وإعدادهم، وقد يقفون على وجود جملة صفات تميز الأطفال من ذوي القدرات الابداعية، ومنها: حب الاستطلاع، وكثرة السؤال لمعرفة المزيد من المعلومات العلمية، وزيادة الرغبة في الاستفسار والتقصي والتحري والاكتشاف، وسرعة البديهة وغزارة الأفكار وتنوعها، وتمتعه بالطلاقة والمرونة والأصالة والميل إلى التوسع، والثقة الكبيرة بالنفس، والاستقلالية بالرأي والاتزان الانفعالي في مختلف المواقف، والتمتع بخلفية ثقافية واسعة، والميل كثيرًا للقراءة في حقول متنوعة من المعرفة، والاتجاه للبحث عن العلاقة السببية بين الأشياء أي بين السبب والنتيجة، وحب التعامل مع الأرقام. كما تستهويه كثيرًا المؤشرات الإحصائية والرسوم البيانية للنسب المئوية وللمعطيات.

صبحة بعورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: المدارس المستدامة