دكتورة رانيا يحيى تكتب: ألحان بمذاق الأمومة

تتولد مشاعر الأمومة لدى الأنثى منذ أن تحمل جنينها وهنًا على وهن، فرحة بحركته وقلقةٍ من سكونه، ثم تأتي ساعة الوضع فتعاني ما تعاني من مخاضها، وآلام شق بطنها أو تمزق رحمها، ولكن ما إن تبصره حتى تتحول كل آلامها الجسدية إلى آمال وطموحات؛ لتحقيق سعادة وليدها وحسن تربيته وتقويمه.

مشاعر الأمومة

وهي تحمل على كاهلها مسؤولية التربية وسهر الليالي وتنصرف إلى خدمته في ليلها ونهارها، وتخاف عليه من رقة النسيم، وتؤثره على نفسها بالغذاء والنوم والراحة، وينتج عن هذا حالة من الحب والعشق بين الأم ووليدها تؤثر فيهما معًا.

وفي مارس «شهر احتفالات المرأة وعيد الأم» نجد دور الأم جليًا في إبداعات بعض المؤلفين الموسيقيين العالميين؛ ما نتج عنه وجود مجموعة من الأعمال الموسيقية، التي تُسعد الملايين لما تحمله من صدق المشاعر.

والأمثلة كثيرة، مثلًا نجد «بيتر إليتش تشايكوفسكي»؛ الذى أبدع كثيرًا من الروائع العالمية، كان شديد التعلق بأمه وتسببت وفاتها وهو في الرابعة عشرة من عمره في مأساة حقيقية، تركت في نفسه أثرًا عميقًا، وحنينًا مستمرًا لأيام طفولته السعيدة، واستطاع أن يعبر عن هذا الحنين بشكل مباشر في أحد أعماله الناجحة، وهي الحركة الثانية من السيمفونية الرابعة، والتي جسدت هذه المشاعر برومانسية صادقة.

مشاعر الأمومة

وكان لنشأة «جورج بيزيه» و«فولفجانج أماديوس موتسارت» مع والدتين موهوبتين في عزف الموسيقى أثر في تعلقهم الشديد بهذا الفن منذ سنواتهم الأولى.. وكذلك كان لـ «فريدريك شوبان»؛ والذي كان يبكي في طفولته حين تعزف أمه على البيانو، تأثرًا بذلك، وهناك «شيطان الكمان» نيكولو باغانيني، وكانت تربطه علاقة قوية بأمه التي شجعته على تعلم الموسيقى، ويُروى أنها رأت في منامها عبقريته التي يتحدث عنها العالم أجمع؛ ما جعله يحاول تحقيق هذا الحلم.

ومن الطرائف التي تُذكر، موقف «فريدريك شومان»؛ الذي كان متعلقًا بوالدته جوهانا كريستيانا شنابل؛ وهي ابنة طبيب جراح وذات ثقافة واسعة وذكاء حاد، وكان «شومان» مطيعًا لرغبة والدته حتى لو على حساب ميوله الشخصية؛ ما دفعها لتحويل مسار ابنها ليكمل دراسته الجامعية، بعد إقناعه بأن الموسيقى مهنة «الشحاذين» وحينما زادت رغبته تجاه ذلك الفن طلب من والدته السماح له بتعلم الموسيقى والتعبير عما بداخله بالعزف على البيانو فوافقت الأم بعد اشتراطها ألا تؤثر في دراسته الجامعية.

ومن ضمن المؤلفات الموسيقية التي كُتبت تعبيرًا عن مشاعر الأمومة السامية كانت الحركة الخامسة من القداس الألماني، والتي كتبها يوهان برامز للسوبرانو والأوركسترا في ذكرى وفاة أمه، أما «إدوارد جريج» فكتب مقطوعة للبيانو تحت عنوان "عزاء أم"، وتتميز الموسيقى فيها بالهدوء والانسيابية؛ حيث يشعر المستمع وكأنه يتحدث لأمه معربًا عن آلامه وأحزانه لفقدانها، كما كتب «ريتشارد شتراوس» أغنية «ثرثرة أم» للسوبرانو والبيانو، وأعاد صياغتها للأوركسترا، ولكنها ليست لأمه بل بسبب سعادته لأن زوجته "بولين" أصبحت أمًا وذلك بعد أن أنجبت ابنهما «فرانز».

وحينما كتب «أنطون فيبرن» الست قطع للأوركسترا التي كرسها لأستاذه «آرنولد شونبرج»، كانت تلك المقطوعات محاولة لوصف حالته النفسية العميقة التي أسفرت عن وفاة والدته وعبّر عنها بمشاعر متأججة؛ حيث عبرت المقطوعة الأولى عن الإطار العقلي العام لوجوده في فيينا ووصفه لهذه الحالة بـ «الكارثية»؛ لأنه كان دائمًا يحافظ على الأمل في أن يجد أمه على قيد الحياة، أما باقي الأجزاء الملحنة فكانت تشبه النمنمات شديدة الحزن لذكريات السعادة التي تربطه بأمه.

وكان «صمويل باربر» أيضًا عاشقًا لأمه بشكل فطري ومحبًا لموهبته في نفس الوقت؛ حيث كتب لها خطابًا وهو في التاسعة من عمره لكي تأذن له بعزف الموسيقى بدلًا من لعب كرة القدم فكتب قائلًا: «إنني كنت أعني أن أصبح مؤلفًا موسيقيًا وأنا متأكد أنني سوف أكون»، وحين كتب مؤلفته الموسيقية «متتالية صيف نوكسفيل» لوالده كما جاء في النص الأصلي للمؤلف جيمس آجي؛ كانت خير تعبير عن المشاعر الحنونة.

أما «أنطونين دفورجاك» فعبّر عن حب الأم بشكل مرهف من خلال إبداعه لمؤلفة «علمتني أمي» للأوركسترا والتشيللو المنفرد بأداء اللحن الأساسي، وهو لحن بسيط عبارة عن حوار بين التشيللو والأوركسترا، وكانت التشيللو بصوتها الرخيم خير معبر عن هذا الإحساس وكأنه يخاطب أمه معبرًا عن عطائها وحبها، وهذه المؤلفة واحدة من الأعمال التي تعبر عن الموسيقى التشيكية الشعبية وبها مختارات من ألحان غجرية؛ حيث أورد فيها أغنيات الأطفال الموروثة التي كانت الأم تعلمها لأطفالها وكانت المفاجأة بعد مرور هذه السنوات أن يظل «دفورجاك» متذكرًا هذه الألحان وعالقة بذهنه.

وألف «دفورجاك» عملًا آخر هو «الأم الحزينة» والتي كتب نصها الراهب الإيطالي «جاكو بون دي تودي» ووضع موسيقاها مجموعة كبيرة من المؤلفين الكلاسيكيين، مثل روسيني وبرجوليزي وهايدن وبالسترينا وفيردي وغيرهم، وكان تعبير دفورجاك صادقًا مخاطبًا للنفس البشرية لأنه لامس واقعه المرير؛ حيث عبّر عن مأساته مع الموت الذي اختطف ثلاثة من أولاده على التوالي وهم في ريعان الطفولة، فدفعه حزنه إلى تأليف هذا العمل الكورالي الروحاني وهو في أشد حالات الحزن، والعمل لأربعة أصوات غنائية منفردة «اثنين نساء هما السوبرانو والألطو، واثنين رجال تينور وباص» مع الكورال والأوركسترا والأورغن، وكان لوضع الألحان الشعبية التشيكية أثر في زيادة دفء التعبير وقوة مشاعر الحزن والألم.

وأخيرًا، لا يسعني في مناسبة الاحتفال والاحتفاء بعيد الأم سوى أن أبعث برقية تهنئة يملؤها الحب والتقدير والعرفان بالجميل لأمي، ولكل أم، ويكفي أن نتذكر مكانة الأم في قول رسولنا الكريم _صلى الله عليه وسلم_ "الجنة تحت أقدام الأمهات".

د. رانيا يحيى عضو المجلس القومي للمرأة

اقرأ أيضًا: دكتورة رانيا يحيى تكتب: في عيد الحب.. المرأة «جوهرة» الحياة وسر الإبداع