صبحة بغورة تكتب: مآسي نواعم الليل المشردات والسقوط الحر في الدرس المر

رصد وقائع الحياة ليلا في شوارع وأزقة العواصم والمدن الكبرى؛ تكشف عن الكثير من أحداث مثيرة لنساء حفر الفقر على وجوههن ذكريات أليمة حين كتب عليهن القدر العيش متشردات، يواجهن مآسي الحياة بكل أشكالها بين وحوش مفترسة لا ترحم، ونظرات تقتلهن ألف مرة كل يوم بعدما طرق الأسى أبوابهن وولج يومياتهن دون استئذان.

أحاطت بهن مصائب الدنيا وتكالب عليهن بنو البشر، وكذلك سار الحرمان ليعثر له على مكان في حياتهن يتربع فيه بكل ثقة دون سابق إنذار يوجه لسعاته القاسية من الذل؛ فيضاعف جرعة الألم في القلوب المتوجعة من هول ما وقع لها بعد السقوط السريع من قمة الرفاهية إلى حضيض الذل.

القصص الواقعية للمشردات لا يخبئها سواد الليل فهي حكايات الصراع مع البرد والجوع وذئاب الليل، ورغبة منا في إشاعة العبرة ارتأينا عرض حالات لنساء تعرضن لأصعب المحن، وقد كن كريمات في عز الجاه والثراء ثم تحولن في لحظات غفلة ضحية الإفلاس والذل والمهانة التي لوثت حياتهن وأدخلتهن جحيم الفاقة والعوز.

ومن القصص ما يتبادر إلى الذهن أنها مستوحاة من عالم السينما؛ إذ تؤكد الشواهد أنها ظواهر إنسانية موجودة بدرجات متفاوتة في كل المجتمعات فإن التحفظ في ذكر أسماء الشخصيات والأماكن يصبح واجبا ولن ينقص من قيمة العمل الذي لا ينشد سوى استخلاص المغزى والمعنى والدرس.

سيدة تروي ظروف السقوط المدوي لشقيقتها الوحيدة في قاع الحرمان، بعدما كانت صاحبة تجارة كبيرة تدر عليها الملايين وحققت لنفسها الحياة المريحة وفتحت لها الدنيا كل أبواب الأبهة الاجتماعية، آمنت لزوجها الذي أحبته بعد أن بلغت 38 عاما، فاستغل حبها وثقتها ليحتال عليها ويسلبها كل أموالها ويفر خارج البلاد ويدخلها عالم التسول من الباب الواسع تستعطف المارة في الطرقات التي حفظت ملامحها حتى يجودوا عليها بما يسد رمقها.

وهذه آنسة 34 سنة رفضت أن ترمي بعفتها في أوحال العبث فكان عقابها حرمانها من وظيفتها في إحدى المؤسسات الخاصة التي كانت تجني من ورائها راتبا محترما تعيل به عائلتها، رفضت المساومة بشرفها مقابل الاستمرار في منصبها فتم منحه لأخرى أدنى منها مستوى ولكنها كانت ذات حظوة بسبب استهتارها وانفتاحها، وكانت النتيجة أن لم تتحمل فطرتها السليمة الموقف فأصيبت بصدمة نفسية يرثى لها انتهت بها بحالة هذيان في الطرقات.

وهذه حالة شابة تعيش في الشارع منذ عامين كاملين، تركت الدراسة وغادرت منزلها الذي أقام فيه عمها وزوجته الشابة بعد وفاة والديها مدة ثلاث سنوات كاملة كان يسيء خلالها معاملتها ويضربها، فتحولت إلى متسولة وعرضة للخطر في الطرقات وفريسة في نظر الرجال، وأدى إقامتها الصلاة في الطريق إلى اعتبارها مجنونة خاصة بعد إصابتها بالحساسية بسبب المكان القذر الذي تنام فيه.

واقعة مأساوية تعرضت لها إحدى الآنسات 41 سنة تحولت من موظفة محترمة بإحدى الشركات إلى بائعة مناديل ورقية على قارعة الطريق وهي مضطرة إلى تحمل الإهانات والكلمات الجارحة التي تزيد من آلامها الكبيرة بعد تعرضها لتعسف الإدارة وتحكم البيروقراطية ورميها إلى الشارع بدون مصدر رزق وقد تخلى عنها الجميع بعدما أصبحت بلا فائدة..

وهذه حالة من تزوجت مدمن كحول وهي في عمرها 34 سنة وأنجبت منه طفلين، ثم تركهم ولم يتحمل مسؤوليتهم وفضل العيش في الشوارع، ودفعها هذا الوضع إلى إيداع طفليها لدى مصالح الشؤون الاجتماعية بعيدا عن حياة الجوع والتسول ومخاطر المبيت بالشوارع، تشتاق لرؤيتهما ولا تملك ما يكفي من المال لزيارتهما.

وهذه كارثة اَخرى، طردها أخوها من البيت بعد وفاة والديها في حادث مرور وهي في سن 11 من عمرها لتبحث لنفسها عن عمل كشرط للعيش معه، مضت 7 سنوات وهي متواجدة بالطرقات، تعرضت للاغتصاب من مجهولين، وأصيبت بالحساسية والكوليسترول، ساعدها البعض في الحصول على عمل كمنظفة عمارات للحصول على قوت يومها، ورغم هذا ظلت بعيدة عن منزل والديها.

سيدة تعرف بـ"المتجلببة" في العقد الرابع من عمرها، قضت سنوات طويلة في الشارع وعانت من التحرشات الكثيرة جعلتها عنيفة، تروي قصتها مقربات منها، بعد وفاة والديها طردها أخوها صغيرة بعد مناوشات وقعت بينها وبين زوجته، لم تجد لنفسها حلا منذ سنوات سوى المبيت في الشوارع.

سيدة من حي راقي 42 سنة، سافرت إلى مختلف دول العالم ممثلة لإحدى الشركات تعقد الصفقات، عاشت حياة البذخ وفتحت للكثير من معارفها أبواب المنفعة المادية، لم يدم هذا الحال طويلا بسبب غيرة وحسد البعض، وأُحيكت ضدها مؤامرات قذرة تمكنت من تغيير حياتها وسقوطها في هاوية الحرمان وتحولت إلى مجرد عاملة نظافة في أحد الفنادق بأجر لا يكفي قيمة إيجار غرفة حقيرة بحي شعبي.

هذه نماذج مؤسفة لفئة من النساء تعرضن لظروف أسرية قاسية تركت آثارها عميقة في النفوس، ويلاحظ أنهن ضحايا التفكك الأسري وهشاشة وشائج الأخوة وانعدام مشاعر الغيرة وتفشي ظاهرة التخلي عن المسؤولية.

وهناك نماذج أخرى ما يزيد أمرهن سوء أن تكون نتيجة التشرد وجود أطفال الخطيئة؛ حيث تتفاقم حجم المشكلة لتصبح مأساة جديرة بالتوقف طويلا أمامها.

قصص مؤلمة لفتيات غرر بهن باسم الحب، فأخذن طريقهن مباشرة نحو الدمار ، وضاعت أحلامهن وآمالهن بالعيش في عالم مثالي، قصص نتيجتها واحدة وبداياتها متشابهة، نظرة.. فابتسامة ثم موعد فلقاء.. فدمار، وجهود يائسة لإثبات اسم ونسب الوليد ورحلة عذاب "الأمهات العازبات" في وسط لا يعبأ لصرخات وآهات أبناء الخطيئة، فما أصعب مهمة امرأة مخطئة غرر بها وهي في محاولة مضنية لدرأ الفضيحة حتى لا يشب وليدها مجهول الهوية ومحل سخرية المجتمع دون أي ذنب اقترفه.

تعترف إحداهن أنه "كان لابد أن تعرفه بحكم الزمن والظروف والطبيعة الإنسانية" وكان موظفا مهذبا ورزينا، يوحي للأنثى بالرجولة والقدرة على توفير الحماية، وتعترف أن طفولتها كانت مؤلمة، وأنها حرمت صغيرة من حنان الأم، واندفعت تبحث معه عن المتعة وكل الرخاء.. حملت منه، ورفض العشيق الاعتراف بثمرة العلاقة غير الشرعية وتصحيح الخطأ، راودتها فكرة الانتحار، والانتقام منه وقتله، ثم فضلت الفرار من البيت واضطرت إلى التشرد منذ لاحظت بدء انتفاخ بطنها.

فتاة في العشرينات من عمرها، وقعت في الخطيئة من أول نظرة إعجاب لابن جيران جدتها، تبادلا النظرات والابتسامات ثم اللقاءات بعد تردد طويل اتهمت خلاله نفسها بالقسوة؛ فأسلمت له أخيرا نفسها في لحظة ضعف وكانت ثمرتها طفلة؛ حيث تحول فور علمه بالخبر إلى وحش كاسر ورفض فكرة أن يتزوج بها، واكتشفت أن مكان عمله وإقامته كان مزيفا، عاشت حياة التشرد خوفا من عائلتها، وبعد بحث دام أربع سنوات التقت به صدفة فأنكر أنه يعرفها أصلا.

تثير صور المأساة التي تعيشها نساء في ظلام الليل عبر الشوارع والأزقة الكثير من التأملات حول الأسباب والعوامل التي تدفع الفتيات إلى الوقوع في الخطأ.

ويلاحظ أن الحرمان من الدفء الأسري وقصور الإشباع العاطفي في الصغر والفراغ الروحي والابتعاد عن الدين وانعدام أو ضعف التواصل الأبوي في مرحلة الطفولة وعدم نضج الأبوين وقلة حكمتها، غالبا ما تكون مفاتيح جميع أنواع الرذائل والمصائب، وتمثل كلها الأسباب التي تضع الفتيات أمام حالات من فقدان التوازن سواء تجاه مغريات المال أو الكلام المعسول، وتشكيل تلك الرغبة المجنونة والجامحة لخوض مغامرة عاطفية التي سرعان ما تقع فيها الفتيات ضحية لتتطور العلاقة في غفلة منهن إلى ما لم يحسبن له حسابا ولا يجدي معه أي تبرير.

تكتمل الجريمة بتنكر الفاعل لثمرة خطيئته، فيضع المجتمع أمام معضلة التكفل بالطفولة المهملة وأمام مشكلة إثبات النسب، وتتحفظ الأوساط الحقوقية كثيرا بشأن إثبات الأبوة ولو عن طريق الحمض النووي فيما يتعلق بمنح نفس الحقوق للأطفال المولودين خارج إطار الزواج وبنفس الدرجة مع الأطفال الشرعيين بما فيها توريث هؤلاء وذلك انطلاقا من تأكيد الشريعة الإسلامية أن ابن الزنا لا يرث، وأن النسب لا يثبت من علاقة غير شرعية انطلاقا من أن النسب نعمة ولا يمكن تحقيقه بنقمة، في إشارة إلى أن الإقرار به من قبل الأب الذي يعترف صراحة بأبوته للطفل جائز قانونا شرط أن لا يقول أنه ثمرة علاقة غير شرعية.

هذه بعض التبعات الخطيرة التي تترتب على لحظات الغفلة والاستسلام للرغبات الظرفية والنزوات العابرة، وقد كان بالإمكان تجنبها بمزيد من تحصين النفس وترسيخ الوعي بفضائل الأسرة وبركة العائلة، وتنمية الوازع الديني والأخلاقي، وتوسيع البصيرة بعواقب ما دون ذلك.

لا تخرج ظاهرة تشرد النساء عن كونها نتيجة مباشرة للعنف الأسري خاصة بعد انتشار السطوة غير السوية للمال والنفوذ، والتنكر لأقدس القيم والتخلي عن الأعراف الأصيلة التي تصون الكرامة والشرف، والتقوقع على الذات، وغلبة الفردية على حساب العلاقات الأسرية والإجتماعية.

وتجب الإشارة إلى أن الشخصية كما الأخلاق عند الفرد لا يمكن أن تتجزأ، فلا يمكن أن يكون المرء إيجابيًا أو خيرًا في مكان، وبذات الوقت عدائيا وشريرًا في مكان آخر، قد تختلف المواقف تبعا للأشخاص لكن ليس الاختلاف الجوهري والعميق في التعاطي مع ذات الأمور بمقاييس متعددة.

                                                                                                                           صبحة بغورة                                                                                  متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا.. صبحة بغورة تكتب: التقاعد العاطفي.. أزمة منتصف العمر بالأبعاد الثلاثة