صبحة بغورة تكتب: التوقف الذهني المفاجئ

قد يضطر الكثيرون إلى التزام البقاء بمنازلهم بسبب المرض أو التوقف عن العمل نتيجة إفلاس المشروع أو التقاعد والإحالة على المعاش، وفي كل الحالات يتوقف نشاط الفرد كشخص منتج وهو مازال في سن العطاء، إنها بداية مرحلة المعاناة النفسية.

طبيعي أن يعيش الفرد المتقاعد أيامًا صعبة لم يتعوّد عليها خلال فترات عمله وكده السابقة من مراحل شبابه ورجولته وسنين من شيخوخته، قضاها كلها في حيوية ونشاط ومليئة بالتعامل مع مصاعب الحياة ومشاق العمل وإحراجات العلاقات المهنية والشخصية والعامة، إنه جهد بدني وذهني ونفسي تحت ضغط يومي معتبر، وانشغال دائم بمسائل لا تريد أن تنتهي وتفكير متواصل في أمور حساسة وهامة تتطلب تدخلا شخصيا منه وحلها حلا حاسما، ويود حينها لو أن اليوم يطول أكثر من 24 ساعة ليتمكن من القيام بواجباته العائلية التي لا تقبل التأجيل والوفاء بالتزاماته الوظيفية التي لا تقبل التأخير، وهو قلما يجد فسحة من الوقت يقضيها مع أسرته. ويظن أنه الوحيد الذي يحس بنعمة الراحة الحقيقية التي لا يدرك قيمتها إلا الشخص المتعب فقط.

إن ما يمكن أن يمثل عوامل مجددة لحياة المتقاعد عامل السن والحالة المادية ونوعية أصدقائه؛ فهي قد تؤثر في نظرته للحياة:

إما سلبيا؛ إذ يؤدي الحرمان الحسي والعزلة الاجتماعية في حدوث اضطراب مفاجئ ومتقلب في الوظيفة الذهنية فيصير الفرد غير قادر على الاستمرار في حالة الانتباه فيبدو تائها غير قادر على التفكير بوضوح ويعاني من تقلبات في مستوى اليقظة أي الوعي إنها حالة ذهنية غير طبيعية أقرب إلى الهذيان المؤقت ولكن غير مرضية، ويصفها البعض بالتخليط الذهني. ولكن مثل هذه الحالات يمكن عادة الشفاء منها.

وإما إيجابيا؛ بتواصل زملاء العمل والأصدقاء معه فلا يشعر عندما يترك العمل بالفقدان أو الاغتراب ويكون متوافقا مع نفسه ومع الآخرين توافقا ناجحا. والعامل المهم هو طبيعة اتجاهات الفرد نحو عمله فهي تؤثر كثيرا على مشاعره نحو التقاعد، فكثير من الموظفين يقضون معظم ساعات نهارهم في العمل حتى بعد الدوام الرسمي وهم يجدون في ذلك احترامهم لأنفسهم والشعور بأهمية الذات، والتقاعد في هذه الحالة مؤلم؛ لأنه يعني حرمان الموظف من متعة الاستغراق في العمل وفرحة إتمام إنجاز المهام. والمشكلة أن الكثير من المتقاعدين اكتسبوا خلال سنوات عملهم الطويلة خبرة كبيرة ودراية واسعة وإلماما وافرًا بمفردات مهام عمله، ومن الصعب عليه تناسي كل هذا وقد يثير في نفسه الشفقة على من يخلفه من الشباب حديثي التوظيف، بل قد يدعوه إلى جملة من التساؤلات الحائرة التي يحلو لأحدهم مغازلة فكره به وهو يمني النفس إن كان يمكن أن تستحدث المؤسسة يوما نظاما يسمح لها الاستفادة من تجارب بعض المتقاعدين ممن يتمتعون بالخبرة ويملكون الدراية سواء في المجال الاستشاري أو مجال تأهيل وتدريب الكوادر الشابة. ولكن يبدو أنه ليس هناك مجال للمرونة تراعي المتقاعدين بأي قرار مناسب.

ومن الطبيعي أن يتعرض هذا الشخص إلى حالة من الشرود الذهني عن ما حوله والسرحان في لا شيء، وقد تلازمه هذه الحالة إذا استسلم لها طويلا، وبديهي أن تكون من أسبابها كثرة التفكير والانشغال الدائم بشأن حال الأسرة ومستقبلها في ظل تنامي احتياجاتها وتزايد الأعباء والمسؤوليات، ومعنى طول أمد هذه الحالة هو عدم توصله إلى حل لمشكلته وهو ما يزيد قلقه وتخوفه من قادم الأيام، ويمكن أن يكون وراء تفاقم هذه الحالة أسباب مرضية من أبرز مضاعفاتها قلة التركيز وميله إلى النوم كثيرا بالنهار وتنطبق هذه الأعراض على مرضى القلب والسكر والضغط والأمراض النفسية مثل الاكتئاب.

الواقع أن الاعتبار المادي يأخذ حيزا كبيرا من الانشغال والقلق؛ لأن تعقيدات الحياة تشير إلى احتمال بروز أزمة قد لا ينتظر تجاوز آثارها في وقت قصير، وهو ما لا يجعل الشخص يأخذ نصيبا كافيا من راحة البال والنوم والأمر قبل كل شيء يرتبط بقوة شخصية الفرد وإيمانه وثباته ورجاحة عقله وصبره، هذه مقومات أساسية للفرد السوي تعينه كثيرا على حل مشاكله في الحياة وتجاوز أزماته دون متاعب ودون أن يتعرض لنوبات غيبة في فترات مفاجئة يتعرض خلالها لتشوش الوعي والتوقف الذهني المفاجئ؛ فتراه وكأنه يحدق في شيء في الفضاء لبضع ثواني ثم يستعيد انتباهه ،وبالتأكيد سيكون الأمر جد خطير لو أصيب بهذه النوبة أثناء قيادته السيارة أو أثناء تواجده بالمطبخ أمام الفرن مثلا أو كان حاملا أغراض ثمينة.

ويمكن للمحيطين به من أسرته والآخرين ملاحظة أن بعض الأعراض غير المألوفة قد طرأت عليه والتي يجب أن تؤخذ مأخذ الجد، ومنها التوقف المفاجئ عن النشاط وضعف الحيوية، ولعق الشفتين بشكل غير طبيعي، ووجود رعشة لاإرادية في الجفنين، وتناول الطعام بحركات مضغ غير سوية، وفرك الأصابع بقوة وعصبية زائدة ، وعمل حركات صغيرة باليدين ليس لها معنى، وكلها تؤكد مدى شدة حالة الاضطراب العصبي وعمق حالة القلق التي يعاني منها هذا الفرد. هذا بالإضافة إلى التقلب المزاجي والتغيرات المفاجئة في العواطف والتردد في الرأي والانفعال المفاجئ غير المبرر، وحينها سيكون من الضروري عرضه على طبيب مختص؛ لأن الشرود الذهني أو التشتت الذهني هو في حقيقته فقدان الاحساس بالمكان والزمان، وانعدام تركيز المريض مع من حوله من أقوال وأفعال، وكثرة السهو والغفلة والنسيان، ومثل هذه الحالة لا تؤهل المصاب بها لتحمل المسؤوليات أو تكليفه بالواجبات، إنها حالة مرضية تعرض صاحبها وأصحاب المصلحة معه للفشل والخطر والخسارة.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: أثر الأخطاء الإملائية في النطق على مهارة الكتابة