خالد سعد زغلول يكتب: يوم أن كنت صائمًا في ليلة لم يظهر فيها القمر!

جاء زميلي السابق في الأهرام والسفير الحالي لدى منظمة غير حكومية جمال الغزاوي من أقصى عاصمة النور "باريس" يسعى لغرض نبيل ألا وهو دعوتي على إفطار في مطعم صيني تايلندي ياباني كبير في باريس اعتاده لنظافته ولذة أكلاته وذلك بعد أن عرف بأنني نويت أن أصوم السنة.. فرح كثيرًا وبالغ في فرحه حتى ظننت أنه يراني من كفار قريش ودخلت الإسلام حديثًا.

لا أعرف لماذا ألح في الرجاء على الوليمة الآسيوية الفخمة رغم عشقي للمطبخ الفرنسي والعربي عموما، نجح في اقناعي.. وكنا نتسابق على اختيار ما لذّ وطاب من مختلف الأصناف البحرية والبرية والجوية الشهية والتي نجهل شكل أغلبها، وأعجبتنا ألوانها الزاهية وطعم لحومها، وكذلك الشوربة الشهية بالشطة والفلافل الملونة التي زدنا منها وسألت الجرسونة الصينية عن نوع الشطة ونوع الفلافل؛ فقالت ليس بها شطة ولا أي فلفل وتبسمت ضاحكة وانصرفت.

وبعد أن ثقلت موازيننا بما أكلنا وجاء وقت الحلو، فجأة اقتحم المطعم فرقة بوليسية مكونة من نحو 20 شرطيًا فرنسيًا وحاصروا المكان بسياراتهم من الخارج، ومنعوا الناس من دخول المطعم، وكعادة المصريين في كل المواقف تبادلنا القفشات والنكت والضحكات؛ فمازحني جمال قائلًا:

"دول جايين علشانك قلت له لا دول جايين علشانك انت مسلح وفي عربيتك قنابل"، وكنا الوحيدين الضاحكين وسط ذعر الزبائن ودهشة الشرطة.

سألت كبير الحملة الأمنية بحكم كوني الصحفي الوحيد في المكان، هل في المطعم لص أو إرهابي؟ فنفى مشيرًا إلى أنها حملة تفتيشية عادية للتأكد من نظافة المطعم.. ولكني لم أقتنع، لا سيما حجم الحملة وتربص رجال الأمن.

وبعد نصف ساعة كأنها شهرًا، خرجت الشرطة ومعها انتباهاتنا فأسرعت لأستفسر من قائدهم عن نتيجة الحملة فقال لي ما يلي:

" لا شيء غريب فقد أكلتم فئران وصراصير وكلاب وقطط وبعض الخفافيش والسلاحف والحشرات.. بالهناء والشفاء"؛ ثم انصرف ومعه قوته وتركنا في حيرتنا ورعبنا !!!

ياللهول، ماذا أقول بعد كل ما قيل وأي شيء يقال بعد كل ما قيل؟ لقد صعقنا كلامه خصوصا وأنه جاء متاخرًا جدًا، بعدما امتلأت معدتنا بنصف حشرات وفئران وخفافيش وكلاب الجمهورية الفرنسية.

عرفنا طبعا أن الشوربة الحارة التي أعجبتنا لم يكن فيها فلافل ولا شطة وانما كوكتيل من الحشرات والصراصير والطيور الجارحة وكل ما وصلت أيديهم إليه من سماء وأرض قارة آسيا.

لكني قبل أن أعلق أو أنقل كلامه لكل من في المطعم تركت عيناي لتجولان في أرجاء المطعم بحثا عن عدسات الكاميرا الخفية التي ظننت جمال طرفًا في مقالب برنامجها؛ فعادة ما يكون الضحية ضيفهم عن طريق صديق مخلص يثق به لكني لم أجد شيئا، وأكدت جدية الشرطة بأنها للأسف الحقيقة وبأنهم سيغلقون المطعم في صباح اليوم التالي.. وقد كان.

وبعد أن أبلغت الحضور، كان صديقي صاحب الدعوة عصبيًا ومتوترًا للغاية، وأمسك بطنه وتغيرت ألوان وجهه في ثوانٍ، وصاح في مدير المطعم وكاد يفتك به لولاي ووقاره، لكنه أمطره بوابل من الشتائم المصرية اللبقة وبلغة موليير حتى يفهمها ورفض دفع الحساب؛ بينما كنت غارق في ضحك هستيري من هول المفاجأة، وقلت له إنها حالة نفسية فلم تهضم معدتك بعد الطعام.. وظننت أننا سنبيت في المستشفى الليلة بعد أن تؤلمنا بطوننا وسلمت أمورنا لله، لكن المفارقة أنه لم يحدث لي ولا له أي سوء ولله الحمد.

السؤال الذي طرحته على جمال والذي يفرض نفسه بقوة من واقع الحدث الجلل قلت له: يعني انت جايبني من بيتي على لحم بطني وجاي من أقصى الدنيا علشان تعزمني على سلاحف وثعابين وخفافيش وفئران وكلاب وقطط وصراصير كمان؟.

سؤال آخر: كم فأر وخفاش وحشرة وكلب وقطة وحمار أكلناهم الليلة؟.

اللافت للنظر أننا بالغنا في الأكلات البحرية والبرية واجتهدنا في اكتشاف اللحوم الغريبة التي تختلف ً ونوعيًا عن كباب الحمير في مطعم فخم بحي شعبي.

وتوجهت الى مدير المطعم وكان آسيويًا، رجلا في الخمسين بدت عليه علامات الحزن لخراب بيته قلت له بكل لطف وهدوء: لو تكرمت عاوز آخذ معي للمدام ديليفري: مخ قرد وكبدة ثعلب ولحم ضلوع كلب.. الطريف أن المدير قال لي بكل جدية: هتلاقي طلبك عند المطعم الكوري المقابل لنا.

المفارقة الأكثر قوة أن ما أكلناه منحنا قوة جبارة لمدة أربعة أيام لم نعهدها من قبل؛ فهمنا على أثرها سر قدرة المواطن الصيني الضعيف في الحجم والبنيان على إنجاب ربع البشرية مليار ونصف المليار إنسان.

خالد سعد زغلول كاتب صحفي

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: معضلة التعبير العاطفي عند الأزواج