صبحة بغورة تكتب: تقريب المسافات بين الآباء والأبناء

أدى الانفتاح الواسع للمجتمعات العربية على مظاهر الحضارة الغربية وتطور الحياة الإنسانية بصفة عامة، إلى حدوث فجوة واسعة بين اعتقادات الآباء الراسخة، وبين مفاهيم وتطلعات الأبناء المستحدثة المندفعة بعنفوان الشباب لتغيير واقعهم والبحث عن الجديد لتبديل أسلوب حياتهم؛ ما يثير تساؤلًا حول كيفية تقريب المسافات بين الآباء والأبناء!

محطات فارقة

هناك محطات فارقة في حياة الأمم، ليست بجديدة ولكنها متجددة، قد تكون أشد حدة في مراحل التحول الاقتصادي الذي يلقي عادة بظلال ثقيلة من القيم المستحدثة على الوضع الاجتماعي والعلاقات الإنسانية، كثيرًا ما كانت تبدو عميقة التأثير في طبيعة العلاقة بين الآباء وأبنائهم، وحاسمة في تحديد الخيارات الوطنية؛ إذ يؤدي فيها الوعي المجتمعي دورًا هامًا في تجسيدها واقعًا حقيقيًا، يتشكل من طرفي نقيض:

- تمسك الآباء بما ألفوه وعاشوا به وورثوه.

- تمسك الأبناء بما يعيشونه بعد العولمة؛ من أفكار وقيم أجنبية غريبة عن القيم الأصيلة لبلادهم، يرونها أفضل، وتستحق أن يُقتدى بها، مع الدعوة إلى التخلي عن الموروث من فكر وثقافة وفنون.

ولأن الأبناء لا يطيقون التكيف مع واقعهم، فإنهم بذلك يخذلون أهلهم ووطنهم بتخليهم عن دورهم المنتظر بالمشاركة في جهود تطور المجتمع وبناء الأمة؛ إذ يلتزمون جانب العزلة؛ الأمر الذي لا يعجب الآباء؛ فينشأ بينهما خلاف، خاصةً أن الآباء لا يدركون قدرتهم المحدودة على ملاحقة كل جديد في عالم التكنولوجيا.

فتح المجال للنقاش

ولتخفيف حدة الخلاف، يجب فتح المجال للحوار والنقاش لتبادل المعارف العامة؛ لخلق تواصل فكري بين الطرفين، لا سيما وأن الأبناء تتزايد مطالبهم التي في معظمها متنفس هام لتفعيل طاقاتهم وفق عقولهم المتطلعة دوما للتجديد، إلا أن الحماسة والاندفاع لدى بعض الشباب تجعله لا يتقنون توصيف مطالبهم، ولا يجيدون آداب الحديث، فيقعون في زلات لفظية، ويرتكبون أخطاء سلوكية تبعدهم عن جادة الصواب؛ وهو ما لا يستوعبه الآباء بسهولة، علاوة على أن جزءًا كبيرًا من مشكلة التعليم يكمن في عدم فهم حاجات الأبناء وتطلعاتهم؛ ما يعفي عقولهم من العمل، ويحول دون الإبداع المطلوب؛ فيلجأون إلى اتباع العنف ضد الأشياء والكائنات الأليفة والضعيفة.

الفراغ العاطفي

إنَّ الضرورة تفرض على الآباء بذل الجهود للحيلولة دون اتساع الفراغ العاطفي والفكري لدى أبنائهم؛ لتجنيبهم الوقوع في فخ الانحراف والانجرار إلى دائرة أصدقاء السوء؛ وذلك بإحاطتهم بمظاهر المحبة واحتوائهم بمشاعر الألفة والاحترام؛ لضمان إتاحة الفرصة أمامهم لإجراء حوار دائم وراقٍ.

وللتربية الصحيحة مناهج ينبغي الانتباه لها، في مقدمتها أن تكون الأسرة والمدرسة المثل الأعلى والقدوة الحسنة؛ كونهما عماد التربية؛ فالثابت أن الأبناء يتعلمون بالقدوة الحسنة أكثر مما يتعلمون بالدروس الشفهية والنصح والكلام، فإذا كانت الأسرة هي المعين الأول والإطار الرئيس الذي تتبلور فيه نفسية الطفل، وتتشكل شخصيته، وتتحدد معايير فهمه لحقائق الحياة وطبيعة البيئة حوله؛ فإنها ستغرس فيه أصول التربية السليمة، والقيم الدينية، والمبادئ الأخلاقية.

الأخلاق الحميدة

وهنا تكمن الخطورة، عندما لا تتوافق أفعال الوالدين مع أقوالهما؛ فعندما يجد الطفل تناقضًا بين سلوك والديه وما يقولانه، فيصاب باضطراب عقلي وتمزق نفسي، قد يفقدانه القدرة على التمييز بين الصح والخطأ؛ لذا نقول إن عملية تعليم السلوكيات السليمة وإكساب الأخلاق الحميدة تأتي في صلب رسالة التربية والتعليم بالمدارس كذلك؛ حيث تنميها المناهج الدراسية؛ بتعليم أسس الدين، وتكريس قيم التضحية والعطاء والبر والأمانة وتاريخ الأجداد ومقاييس الحياة العامة.

وكذلك الأمر بالنسبة لوسائل الإعلام التي يمكنها دعم هذه الجهود، ونشرها على نطاق واسع، وإبلاغ الرسالة لكل شرائح المجتمع بأسلوب إعلامي ، وبشكل عميق ومؤثر.

مظاهر إيجابية

من أحب المظاهر الإيجابية في سلوك الآباء تجاه أبنائهم، الثناء عليهم لتقوية ثقتهم في أنفسهم، وتنمية الدافع الذاتي لديهم ليكونوا فاعلين في محيطهم لتحقيق المكسب والفائدة لأنفسهم، ثم خلق الحافز المناسب لهم- ووفق مستواهم- من أجل إجادة تفعيل مهاراتهم، وحسن استغلال مواهبهم؛ فالنضج النفسي والبيولوجي للطفل المرافق للألفة والحب والمهارات، يؤديان إلى خلق الدافع؛ كعناصر حيوية في تشكيل محيط صحي وبيئة سليمة لحسن تربيته.

كما أنها أيضًا عوامل هامة لضمان تمتعه بالإيجابية في الحياة، ومنحه اطمئنانا لسلامة العلاقة مع الوالدين الخالية من مظاهر تسلط الآباء التي تفتح الآفاق للتعامل الواعي؛ من خلال الفهم الصحيح لآلية هذه العلاقة في أبعادها الاجتماعية والثقافية.

علاقات الصداقة

ويميل الإنسان بطبعه إلى التواصل مع الآخرين في الحي والمدرسة والنادي، كما أنه يحتاج نفسيًا واجتماعيًا إلى أصدقاء؛ فالصداقة أساس الانتماء للجماعة، فعدم إقبال الطفل على تكوين أصدقاء يُعيق استكمال نموه الشخصي ويفقده التوازن النفسي والتوافق مع من حوله.

لأن علاقات الصداقة تنطوي على تقارب معنوي حميد يُكسِب الشباب سلوكيات اجتماعية وثقة بالنفس، تؤهلهم للقيام بالدور الاجتماعي المنتظر على مستوى الأسرة والمجتمع؛ لذلك على الأسرة تربية أبنائها على حب الاندماج، وتدريبهم على مقاييس ومهارات اختيار الأصدقاء، وتوعيتهم بأسس الصداقة المبنية على الدين، والأخلاق، والفضيلة، والعلم.

فجوة أزلية

ويمثل اختلاف المفاهيم والنظرة إلى الحياة بين الأجيال، فجوة أزلية كانت وستظل قائمة بكل تعقيداتها باختلاف الزمان، وتباين نمط المعيشة، وتطور أدوات ووسائل الحياة، وأساليب التفكير؛ لذلك تختلف النظرة للحياة من منظور العقلية التي تشكلت لدى كل فرد، ولكن الحقيقة المؤكدة تنبع من المعادلة التالية:

التربية الأخلاقية + إشباع الفراغ العاطفي + التوجيه السليم والثقة + لبنة صالحة = تنشئة مجتمع صالح.