صبحة بغورة تكتب: مفهوم التدريس الإبداعي بين الذكور والإناث

جدل يبدو عقيما ذلك الذي يربط بين ارتفاع مستوى التحصيل العلمي لدى الذكور أكثر من الإناث دون أدلة موضوعية على وجود تفاوت طبيعي في المستوى بين الجنسين؛ إذ تتناول بعض الدراسات فرضية التأثير الجيني في التعليم، والتفوق الدماغي عند الذكور.

ويشير واقع الحال إلى أن كثيرًا من الذكور يعانون في الصغر من ضعف الأداء الدراسي، وضحالة التحصيل العلمي، وأنهم يضيقون من مواصلة الدراسة؛ بسبب الضغط الاقتصادي والاجتماعي والفقر، فلا يجدون لتحقيق طموحهم المبكر للحصول على المال، إلا الاتجاه إلى احتراف اللعب أو ممارسة أعمال طفيلية أو ممارسات غير قانونية في الشوارع؛ حيث أصبح الحرص على الكسب- مهما كان مصدره- قد غلب الرغبة في اكتساب العلوم والمعارف.

ويبحث بعض علماء النفس في التفاوت بين الجنسين في التعليم على المستوى العالمي، على أساس أن ثمة أدلة على أن الفتيات لا يحظين بفرص وافرة في التعليم، خاصة بالمناطق الريفية والنائية في الدول الفقيرة والنامية؛ فواجب مساعدة الأم في شؤون البيت ورعاية الإخوة الصغار أوْلى من ذهاب الفتاة للمدرسة، وأهم من تلقي العلم. وبين الحالتين يصبح مفهومًا أن هناك خللًا أدى إلى عدم تقديس العلم، وتراجع السعي إلى المعرفة، وفتور الرغبة في الدراسة، وكأنها أصبحت ترفًا وعملًا غير مجدٍ في حياة الأسر.

وتعاني أغلب الدول العربية من ظاهرة العزوف عن مواصلة التعلم وكثرة تغيب الطلاب، وتخلفهم عن الدوام، وصولًا إلى التسرب المدرسي لآلاف التلاميذ؛ ما يؤدي منطقيًا إلى عدم تمتعهم بمستوى يؤهلهم لاحقًا للعمل؛ أي إنهم لا يتمتعون بالمعايير أو الشروط المطلوبة للالتحاق بسوق العمل الذي أصبح يشترط- مع التطور المضطرد- الشهادات الجامعية المتخصصة وأصحاب المستويات العالية من المهارات.

إننا أمام تفاقم مشكلة أخرى؛ وهي ازدياد حجم البطالة التي تعني في أغلب الأحوال ازدياد العوامل المؤدية بالجنسين إلى عوالم الانحراف.

التدريس الإبداعي

من هنا يفرض مفهوم التدريس الإبداعي نفسه كحل يمنح الطالب إمكانيات تنمية قدراته العقلية وتطوير مهاراته على ربط الظواهر والعلاقات، وإعادة تنظيم العناصر المختلفة بطرق مبتكرة تتسم بالفاعلية والمرونة وتحقق الفائدة؛ لأن التدريس الإبداعي يعني التفكير في الجوانب الضرورية للتعلم؛ أي اكتساب المعرفة بالبحث والتحليل وليس بالتعليم بمعنى التلقين، كما يعنى بالمحتوى الفكري والمهارات المرتبطة به، والتي يحتاجها الطالب؛ لذلك فإنها عملية مهمة لتحقيق النمو الفكري والتقدم الدراسي لدى الطلاب، والاستفادة من منحهم الفرص والمساحة الزمنية للتفكير بشكل إبداعي.

للتدريس الإبداعي استراتيجية تقوم أساسًا على حسن استخدام توسيع التعميمات والتشبيهات المجازية لتقريب المعاني وتفسير المفاهيم، يقوم بها المعلم الذي يُفترض أن يكون مؤهلًا لتطبيق طريقة التدريس التي تنمي التفكير الإبداعي عند الطفل.

التعلُّم

يرتبط أسلوب التدريس الإبداعي بشكل كبير بمفهوم التعلم؛ فعن طريق الحصول على المعلومة ببذل الجهد الذاتي في البحث والتحليل والاختبار والملاحظة والاستنتاج والحكم، يستمتع الطلاب من الجنسين بدراستهم أكثر من أسلوب تلقينهم، ويتشوقون للمزيد منها؛ فتتراجع نسبيًا ظاهرة الغياب عن الدوام بعدما تكون قد ظلت المشاكل التي تواجه الذكور بصفة خاصة قائمة ومستمرة، دون رغبة في حلها، ولا جهود لتخفيف أثرها، سواء من جانب المدرسة أو الأسرة.

التنمية التربوية

يضع المختصون التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية كحل لرفع نوعية التعليم، ويؤكدون أن التقدم الاقتصادي سيقلل من العجز الدراسي عند الذكور، فيما لم يجزم آخرون بوجود علاقة ثابتة ومؤكدة بين الوضع الاقتصادي والفجوة بين الجنسين، فاستنادًا إلى دراسات أمريكية، لوحظ أن الذكور من الأسر الفقيرة- ممن يعانون من انفصال الوالدين ويعيشون مع أمهاتهم- يعانون ضعفًا في التحصيل العلمي أكثر من الفتيات؛ وبالتالي فإن التنمية وحدها لا تكفي لسد فجوة التعليم بين الجنسين.

وفي المقابل تبرز معاناة الفتيات من عدم الشعور بالثقة في النفس وبضعف قدراتهن العلمية والرياضية، بينما يتمتع الذكور بثقة أكبر ويثيرون الكثير من المشاكل بالمدارس، ويحبون ألعاب الفيديو، ويضيقون من أعمال المنزل ولا يحبون القراءة.

لذلك يبدو أن الأمر أصبح في حلبة الآباء لتشجيع الفتيات على دخول عالم التكنولوجيا وحثهن على الاجتهاد بالمجالات العلمية، وكذلك تشجيع الذكور على المشاركة في القيام بواجباتهم المنزلية.

إن تسرب الذكور من المدارس في مرحلة مبكرة قد جعل سوق العمل يعاني خللًا في حجم القوة العاملة المطلوبة بالقدر الكافي لأداء المهام وشغل الوظائف؛ إذ تؤكد الشواهد أن نسبة الإناث في سلك التربية والتعليم مثلًا تجاوزت 80 % في عدة دول عربية، ولكن لا شيء يضمن تقليص الفجوة بمفردهن بقطاعات أخرى في سوق العمل.

ويبدو الأمر على درجة كبيرة من التعقيد، خاصة في المجتمعات المحافظة؛ لأنه كان مرتبطًا بثقافة عامة وترسبات اجتماعية وعادات وتقاليد راسخة وسلوكيات عائلية ثابتة، وظروف تعليمية متقلبة.

لا علاقة للجينات بالفوارق العلمية

كلها عوامل كانت في صالح تشجيع الذكور على خوض غمار التعليم، وحثهم على ولوج مجالات العمل، وتوجه الفتيات إلى مجالات البسيطة والسهلة، ولكن ما يحدث الآن هو العكس؛ إذ تؤكد الدراسات أنه عندما لا تختلف تربية الأسرة للفتاة عن الفتى، ولا تفرق توجيهات المدارس بين الجنسين، وعندما لا تختلف نوعية ومستوى تعليم بينهما، فلن يكون للفارق وجود أو على الأقل يكون ضئيلًا؛ ما يؤكد أنه لا علاقة للجينات بالفوارق العلمية والتعليمية بين الفتى والفتاة بقدر ما تتعلق حقيقة الأمر بالتراكمات العقائدية والثقافية والترسبات التربوية على مدى مئات السنين.

لا شك أن التدريس الإبداعي مرتبط بنوعية التعليم؛ إذ يُعدُّ ارتقاء الأول مرهونًا بتطور الأخير وبجهود تحديثه، وبالحرص على وضع استراتيجيات شاملة تخدم بشكل مباشر جهود تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ كون سوق العمل ونوعية التعليم مسائل مرتبطة ببعضها، وتشكل دعامات أساسية مؤثرة على حجم الإنتاج ونوعيته.

لذلك ينظر إلى التدريس الإبداعي من منظور عام على أنه الإطار الذي يحوي منظومة التعليم الجامعي واختصاصاته، ويسعى إلى تحقيق التوازن بين طبيعة التكوين بالمدارس الصناعية ومستوى التدريب المهني، وطبيعة احتياجات سوق العمل من جهة أخرى.