محمود درويش.. شاعر الأرض والثورة

محكوم عليه بالغربة، ألفى في الهجرة والترحال قدره ، فأنّت روحه، وتعمقت جروحه، لكنه آثر أن يخلد تجربته، فكتب شعرًا، وملء بدمه دواته، فكان محمود درويش، شاعر الأرض، لا بل شاعر الجرح الفلسطيني؛ الذي حلت في 8 آب/ أغسطس الماضي الذكرى العاشرة لوفاته.

طفل مُهجّر

وُلِدَ محمود درويش في 13 مارس عام 1941، أي قبل الاحتلال بسبعة أعوام، في قرية البروة الفلسطينية؛ التي تقع على جبل الجليل قرب ساحل عكا لأسرة مكونة من خمسة أبناء وثلاث بنات.

لم يعش الطفل درويش في قريته طويلًا، إذ انتقل مع عائلته إلى لبنان بعد نكبة 1948، ومنذ هذه اللحظة بدأ قدر "درويش" في التشكل، فلم يلبث في لبنان سوى عامين، وبعدها عاد إلى وطنه متخفيًا، بيد أنه فجع بكون قريته قد دُمرت بالكامل، فهجرهامضطرًا، وعاش في الجديدة. وخلال هذه الفترة تمكن محمود درويش من إتمام تعليمه الابتدائي في قرية دير الأسد بالجليل، وعاش في حيفا لمدة عشر سنوات، وأنهى فيها دراسته الثانوية.

بعد الثانوية، انضم للحزب الشيوعي الإسرائيلي وعمل في صحافته محررًا ومترجمًا في صحيفة الاتحاد ومجلة الجديد التابعتين للحزب نفسه، وترقى بعد ذلك لرئيس تحرير المجلة، كما اشترك في تحرير جريدة الفجر.

لم يكن "درويش" مغتربًا ومهجّرًا فحسب، بل إنه اعتقل أكثر من مرة، إذ اعتقلته قوات الاحتلال الصهيوني خمس مراتٍ عديدة بتهمة القيام بنشاط معاد لدولة إسرائيل؛ لآرائه السياسية وتصريحاته المعادية، فاعتقل أول مرة عام 1961، ثم 1965، و1966، و1967، و1969، كما فرضت عليه الإقامة الجبرية حتى عام 1970.

سفرات وأوجاع

في حياة "درويش" مفارقة غريبة، فرغم تعلقه بالأرض وهيامه بها، إلا أنه ظل محرومًا من لثم ترابها، ومضطرًا للهجرة والغياب عن حضن وطنه، فهاجر إلى موسكو عام 1970، ثم القاهرة، التي قال عن تجربته فيها، والتي امتدت في الفترة من 1971 : 1972:

"وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبًا والأدب المصري. التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين، التقيت محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ وسواهما، والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، ولم ألتق بأم كلثوم وطه حسين، وكنت أحب اللقاء بهما".

واستوطن بيروت من 1973 : 1982، وبين تونس وباريس كانت إقامته منذ 1983 إلى 1994م. ذهب إلى عمان الأردنية عام 1995 ولم تختلف حياته فيها كثيرًا عن حياته في القاهرة وبيروت وباريس وكان أبرز ما يميزها أنها كانت للعمل الجاد، وخير دليل على ذلك أنه صدر له دواوين شعرية كثيرة في تلك الفترة.

درويش.. أنا الأرض

تسيطر على شعر "درويش" ثيمات جمة، بيد أن أشهرها على الإطلاق هي قضية الأرض، أليس هو القائل:

"أنا الأرض.. يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها احرثوا جسدي..! أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس، مرّوا على جسدي، أيّها العابرون على جسدي لن تمرّوا.. أنا الأرضُ في جسدٍ لن تمرّوا.. أنا الأرض في صحوها.. لن تمرّوا.. أنا الأرض. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها.. لن تمرّوا.. لن تمرّوا.. لن تمرّوا!".

بيد أن هذا لا ينفي وجود ثيمات أخرى غير الأرض، بيد أن كل هذه الموضوعات كانت الأرض بدايتها وإليها تعود، "بين ريتا وعيوني بندقيّة"، تُرى كيف تحول حب خالص إلى قضيته الأولى والكبرى، وهي الأرض والذود عنها، وحتى عندما يكون شعره مفعمًا بالرثاء، تراه يُرثي أرضًا لا أشخاصًا.

لم يكتف "درويش" باختزال وجودنا ووجوده في الأرض (أنا الأرض والأرض أنت)، بل إنه جعل هذه الأرض سيدة لنا، وأننا نستحق الحياة من أجل هذه السيادة لا أكثر.

"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةْ: على هذه الأرض سيدةُ

الأرض، أم البدايات أم النهايات.. كانت تسمى فلسطين، صارتْ

تسمى فلسطين.. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة"

حصد محمود درويش بشعره الكثير والكثير من الجوائز مثل جائزة البحر المتوسط 1980، ودرع الثورة الفلسطينية 1981، ولوحة أوروبا للشعر 1981، وجائزة الآداب من وزارة الثقافة الفرنسية 1997 وغيرها الكثير.

وفاة محمود درويش

ذهب محمود درويش إلى مركز تكساس الطبي في الولايات المتحدة الأمريكية ليجري عملية القلب المفتوحة، فدخل بعدها في غيبوبة جعلت الأطباء هناك ينزعون أجهزة الإنعاش كما كان قد وصّاهم ليتوفى يوم السبت التاسع من أغسطس عام 2008، وليعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس الحداد ثلاثة أيام حزنًا على "شاعر فلسطين".

عاد جثمانه إلى الوطن – رام الله – في 13 أغسطس ودفن في قصر رام الله وأعيد تسميته ليكون "قصر محمود درويش للثقافة".