مقال| بين البر وعقوق الوالدين في رمضان

كثُرت السلوكيات الدخيلة على تقاليد وقيم مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وأخذت تنتشر بشكل سبّب قلقًا عميقًا وانشغالًا واسعًا في مختلف الأوساط ، وأثار موجة استنكار شديدة، ولكن الغريب أنها ظلت مستمرة؛ حتى أصبحت ظاهرة يصعب التعامل معها، أو وضع حدٍ لها.

المفارقة في الموضوع أنَّ ثمة سلوكيات كان الاعتقاد السائد بشأنها فيما مضى، أنها نتيجة ظروف اجتماعية قاهرة، أو لأسباب معيشية صعبة، أو لأنها ترتبط باعتبارات اجتماعية حرجة وحساسة؛ فكان المجتمع المحافظ يبدي تفهمًا إذا كان مثل هذا السلوك محل توافق مسبق ورضا من كل الأطراف، إلا أنَّ امتداد هذه السلوكيات إلى طبقات ميسورة الحال، بات يستدعي وقفة حاسمة.

تتعلق المسألة بإيواء الوالدين أو أحدهما في دار مسنين، ليمضيا ما بقي من العمر بعيدًا عن الأبناء الذين لم يطيقوا تحمل عبء التكفل بهما، بعدما نال الكبر والضعف من جسديهما ما ناله.

لم تتعدَ نظرة المجتمع إلى أصحاب هذا السلوك حدود الامتعاض المكتوم والاستهجان الصامت؛ ما ينُم عن غياب الوازع الديني والضمير الأخلاقي؛ لأن الظاهرة تتعلق بنكران جميل الوالدين؛ أي بظاهرة "العقوق"التي قال عنها رب العالمين: " وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا"؛ فرعاية الوالدين في كبرهما شكل بسيط من أشكال رد الجميل لهما، والاعتناء بهما؛ عرفانًا لهما بما قدماه من تضحيات.

ويرى البعض أن للمسألة جوانب إيجابية أكثر واقعية، بعيدة عن المثاليات التي تأسر قلوب معظم الناس الذين يعتبرون "دار المسنين" حلًا لاحتواء هرم الوالدين أو أحدهما، وتحوله إلى عبء على الأبناء يعرقل انتظام حياتهم الوظيفية، ويعيق مواصلة تحمل مسؤولية مهامهم المهنية؛ ما يعرضهم بالتأكيد للمساءلة الإدارية.

ويضيف أصحاب هذا الرأي أن إيجابية هذا الحل ستتأكد في حالة مرض أحد الوالدين، بالإضافة إلى أنهما سيجدان وسط أقرانهم في دار المسنين الأنس والسلوى، ولن يعانيا من متاعب الوحدة القاتلة وألم العزلة، بل سيتبادلان مع الآخرين ذكريات سنين مضت عاشوها بجوارحهم؛ فتنتعش نفوسهم وتطيب خواطرهم بالأخبار الشيقة والأحاديث الباسمة.

ويلتمس أصحاب هذا النظرة، العذر للأبناء الساعين وراء تأمين لقمة العيش، ومتطلبات الحياة العصرية، خاصة في الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها دول العالم.

في المقابل، يؤكد علماء الدين عدم شرعية هذه النظرة، واصفين إياها بالعقوق الذي تعتبره الشريعة الإسلامية من أكبر الكبائر؛ ففي حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه قال ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ قُلْنا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فقالَ: ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ فَما زالَ يقولُها، حتَّى قُلتُ: لا يَسْكُتُ".

ومن أبرز أشكال العقوق؛ إهمال الأبناء للوالدين، خاصةً في وقت هم فيه أشد الحاجة للرعاية والمؤانسة باللمسات الحانية، والكلمات الرقراقة التي تُشعِرهما بالأمان والدفء العائلي، وسط أبناء وذرية بارة تحسن إليهما في نهاية مسيرة حياة قدَّما فيها ما لديهما لإسعاد أبنائهم وأحفادهم.

ومهما كان الإنسان سليم البنية، مكتمل الصحة، إلا أنه سوف يتوقف يومًا ما عن العمل، ويعتمد على المعاش، أو إعانة الشيخوخة، أو يصبح عالة على أولاده أو مجتمعه، وربما لا يجد من يعتني به؛ فيبلغ مع البؤس منتهاه؛ ليتحول بعد طول العمر من سبب سعادة الأسرة إلى مصدر للبؤس والمتاعب.

ولا شك في أنَّ التقاعد يؤثر كثيرًا في مستوى التوافق الاجتماعي لدى المسنين، ما لم يتمكنوا من سد وقت فراغهم، وتعويض انتهاء خدمتهم بنشاط عملي متنوع يناسب قدراتهم الفكرية والثقافية والاجتماعية ومؤهلاتهم العلمية؛ ما يبعث فيهم الإحساس بأن قيمتهم مصونة، وخبرتهم محل تقدير، وأنَّ ثمَّة حاجة إليهم في الإطار العائلي والاجتماعي.

ولن يتسنى ذلك، ما لم يكن المسن يقضي أيام تقاعده في ذات المنزل الذي عاش فيه، ووسط مجتمع الذي ألفه قبل التقاعد، فهو المكان الأنسب لعيشه في كبره؛ لذا من الأجدر إبقاء كبار السن في منازلهم التي شيدوها ، ليمارسوا نفس العادات والتقاليد في إحياء المناسبات خاصة في شهر رمضان، الذي تتعاظم بركته بالالتزام بالفروض والواجبات الدينية والطاعات، والبر بالوالدين الذي هو مبعث خير وبركة وسرور، والذي يزيد الروابط الأسرية قوة.

مهما تفاوتت قدرة المسنين على استمرار العطاء، واختلفت احتياجاتهم في الكبر، فإن ما يكتنزه القلب من عاطفة ويحتفظ به العقل من حكمة يكفي لإدراك حقيقة أن المشترك بين جميع كبار السن هو حاجتهم إلى من يكون لهم سندًا يعتمدون عليه في مواجهة ضعفهم.

وهنا أستحضر قصة أم سقط كوب الحليب من يدها وتكسَّر؛ فصرخ ابنها في وجهها وترك الغرفة غاضبًا؛ فكتبت له رسالة صغيرة. وعندما عاد، وجدها نائمة على كرسيها كالعادة، وفي حجرها الرسالة فوجد فيها :

"ابني وحبيبي وقرة عيني، أنا آسفة؛ فقد أصبحت عجوزًا ترتعش يداي؛ فيسقط طعامي على صدري. لم أعد أنيقة جميلة طيبة الرائحة كما كنت فلا تلمني، فأنا لا أقوى على ارتداء ملابسي وحذائي، ولا تحملني قدماي إلى الحمام فأمسك بيدي وساعدني، وتذكّر كم أخذت بيدك لكي تتعلم المشي حينما كنت صغيرًا. لا تمل من ضعف ذاكرتي وبطء كلماتي؛ فسعادتي من المحادثة فقط أن أكون معك، وضحكاتك كانت تفرحني عندما كنت صغيرًا؛ فلا تحرمني من ابتسامتك. أنا الآن بكل بساطة أنتظر الموت، لقد كنت معك حين ولدتُك، فكن معي حين أموت".