"نزف الطائر الصغير".. رحلة البحث عن المعنى

رواية تبدأ بمشهد ولادة طفل، هو الراوي والبطل وهو الطائر الصغير أيضًا، بطل لا يميز يوم ميلاده إلا كونه موافقًا لانهيار الاتحاد السوفيتي، تلك هي رواية "نزف الطائر الصغير" للكاتب الأردني قاسم توفيق؛ والتي حصلت على جائزة الرواية العربية "كتارا" في دورتها الرابعة.

تبدأ الرواية بمشهد طفل يروي لنا من داخل رحم أمه مشهد ولادته، وتاريخ اللقاء الحميم الذي جمع أبيه وأمه على ذات سرير، فكان هذا الطفل، الذي سيسمى "زياد" فيما بعد، هو المحصلة والنتيجة، وزياد هذا هو أصغر أخواته الثلاثة، إذ يكبره أخ وأخت، وهذا البطل شغوف بربط يوم ميلاده بالأحداث العالمية والهامة، ويوم ميلاده "25 ديسمبر 1991م" موافق لانهيار الاتحاد السوفيتي، وربما في هذا دلالة وإشارة خفية إلى ذات هذا البطل التي ستنهار وتضمحل عندما يبلغ الثالثة والعشرين من عمره.

يُولد الطفل وتسير حياته بشكل طبيعي جدًا كإبنٍ لأسرة مرفهة، يشب ويتعين في أحد البنوك، لم يكن له عمله الخاص كأبيه أو أخيه الصغير، وطوال هذه الفترة الممتدة من الطفولة إلى الشباب كان يحب فتاة تُسمى "سارة"، تستمر الحياة هكذا إلى أن يؤرقه الفراغ وتستعر في رأسه شهوة الوجود؛ فيقرر الرحلة من عالمه الضيق إلى ذاته، فيعد حقيبة صغيرة ثم يقفز إلى سيارته الفارهة، ويهيم على وجهة دون أن يعرف إلى أين يسير أو ماذا يفعل، فتحمله عجلات مركبته إلى العقبة، وهناك يلتقى "ربى" تلك المرأة التي ستقلب تاريخه وتاريخ وجوده.

ورحلته ليست رحلة من "عمان" إلى العقبة وإنما رحلة رجل من الخواء والعدم إلى الوجود وتحقيق ذاته.

مع هذه المرأة، يتعرى من كل ما له بالماضي وبذاته السابقة صلة، كشفت نفسها له وكشف لها نفسه، وباح كل منهما للآخر بسره؛ ذاك السر الذي يقول إننا لسنا سعداء. وعن "رباه" هذه يقول:

"... أفهمتني بأن العمر الحلو الذي تعلمناه لا يعدو غير الوهم، العمر حاو مخادع، مدهش، يوهمنا بحلاوته، ليست نقرة يد "ربى" الليلة على باب غرفتي ما أعلن حضورها، بل نقرتها على عقلها، وطردها للوهم الذي تعيش فيه.. أنا من جاء له القمر، وهي من جئت أنا لها".
يقيما في فندق عدة أيام في غرف متجاورة، ثم تُقرر "ربى" الرحيل، بلا غير رجعة، حيث زوجها وعملها الدبلوماسي، ويتوسل إليها زياد أن تبقى ولو لساعات فيما تأبى هذا الإذعان، وتكون هذه محطة هامة أخرى في تاريخ وجوده، فيقرر عدم العودة إلى بيته مطلقًا، ويجتاز الفيافي ـ يتعرض وقتها للسطو المسلح والضرب وسرقة السيارة ـ ليصل في النهاية إلى قرية "دير الما"، حيث سيعمل هناك، وهو المُرفه وابن الذوات، عاملًا في أحد مجازر الدجاج.

لم يكن له هناك في البداية من أنيس سوى "عواد" أو "أبو الفهد"، بعد فترة من الزمن ومن العمل يختاره صاحب المجزر ليعمل في الشؤون الإدارية، يتعرف على "فهد" ابن عواد، وهو ذاك الرجل الذي شبع من الوجود حتى وصل إلى الملل، فتجاربه عديدة، ومآسيه كذلك.

يتعرف "زياد" على "فهد" من خلال دفتر مذكراته التي أهداها له "عواد"، وفي هذا الدفتر يكتشف بطلنا "زياد" كم المآسي والمجازر التي ارتكبها "فهد" حينما كان مُنضويًا تحت لواء "داعش"، ويتعرف على قصص "فهد" في الغربة وترك زوجته له وأخذ ابنهما معها إلى الأبد.

بعد محاولات مضنية يتمكن "زياد" من تكوين أواصر صداقة مع "فهد" ذاك الكائن اللائذ بالصمت والهارب من الوجود، ثم يمسي هذا الـ "فهد" هو معلم الوجود وشيخ الحكمة بالنسبة لـ "زياد".

وليس في "فهد" من شيء يخوله أن يكون حكيمًا إلا تجربته الواسعة، وفجائعه الجمة، يكفي أن تطالع صفحة أو صفحتين من دفتر مذكراته حتى تكتشف كم قاسى هذا الكائن وكم عاش، ولذلك فهو الآن ذاهلٌ عن العالم، شبعان من الوجود.

هذه الرواية تنضوي تحت ما يسمى بـ "الأدب الوجودي"، أو على الأقل قرأتها أنا على هذا النحو، فالبطل يحاول، طوال الوقت، أن يكون ذاته، وأن يرحل إلى المعنى ويحققه في حياته، إنه مثل "سيد هارتا" في رواية هيرمان هسه، يرحل من الوجود إلى ذاته.

وتنطوي عناوين "نزف الطائر الصغير" على معانٍ ودلالات صوفية، مثل: "التجلي"، "الفيض"، وفي هذا ربما إشارة إلى العلاقة الكامنة بين التصوف والانطولوجيا، وهي علاقة قوية وإنما مضمرة بالنسبة لكثيرين.

تنتهي الرواية ولم يرجع صاحبنا إلى "عمان" ولا غرو في هذا، فقد أقسم على ألا يعود، فعودته إليها عودة إلى كل ما فات، وإلى الخواء والعدم وقد قرر أن يوجد وأن يكون.