صبحة بغورة تكتب: يا باغي الخير أقبل

لن يجد الإنسان سوى الصيام في شهر رمضان الكريم كخير مربيا لنفسه ومصلحا لشأنه وطبيبا لصحته، وبرغم أن أيامه المعدودات لا تعادل سوى حوالي 9% من مجموع أيام السنة فمع ذلك تكفي قوة تأثيرها نفسيا وروحيا وصحيا واجتماعيا المؤمن حتى شهر رمضان من العام التالي، على أن قوة التأثير لابد أن يقابلها قوة التأثر، أي حسن الاستجابة.

فحلول شهر رمضان يعني مباشرة الالتزام بالفرض الإلهي المقترن به وإلا كان مثله كمثل باقي شهور السنة ألا وهو "الصيام " الذي ولا شك يشق على كل الناس، ولحكمة لا يعلمها إلا الله تعالى فرضه علينا كما فرضه على الذين من قبلنا؛ لأنه سلوك طاعة مشدد بحزمة غليظة من الواجبات المفروضة والمحاذير الممنوعة ليكون الصيام كامل الأجر مقبولا ومثابا عليه، وبدونها سيكون الصيام مجرد مشقة وعناء لا معنى لها، وهل معنى هذا أن الالتزام الحقيقي بآداب رمضان ستجعل الصيام للمؤمن راحة؟ كلا ولكن ستجعل للصيام معنى وقيمة وأجرا عظيما.

إن مجاهدة الذات وكبح شهوات النفس أمر عظيم، ذلك أن الشهوات في حقيقتها حاجات أساسية وحيوية لكل إنسان وهي مرتبطة بوجوده وبوظائفه وأعضائه وصحته وعافيته، فلا جدال في العلاقة الشرطية بين توفر الغذاء والشراب وبين بقاء الإنسان على قيد الحياة مثلا، ولا نقاش في أن الغريزة الجنسية تأتي على رأس أقوى الغرائز الأربع عشر عند البشر، ونحن غير مسؤولين عن ذلك لأن كله من خلق الله تعالى وفطرته التي فطرنا سبحانه عليها، ولا أرى في الامتناع عن الشهوات خلال الصيام إلا تأكيدًا على قوة الإيمان وتعبيرًا صادقًا عن سلوك طاعة الذي يضع الإنسان في أعلى مراتب الخشوع وتقوى الله والخضوع لأمره سبحانه، ذلك أن المؤمن الذي أقر الإيمان بلسانه وصدقه بقلبه وامتثل لأوامره بوجدانه وعمل به بكل جوارحه وحواسه قد استحضر وجود المولى -عز وجل- في كل حركاته وسكناته، وفي هذا مراقبة ذاتية شديدة على النفس، والصيام بذلك تربية نفسية لمحاسبة الذات وردع النفس وكسر جموح الشهوات، أي أنه مرادف للصبر والإرادة القوية، ودليل على شدة العزم الصادق، حين يصبر الصائم عن الحلال الطيب إرضاء لله تعالى وامتثالا لأمره.

ومن أهم موجبات الصيام التخلق بالفضائل واجتناب الرذائل، فلا ينسجم مثلا صيام أحدهم ولم يبتعد بعد عن سبيل الكسب الحرام، او لم يكف عن الفساد والإفساد والشر وارتكاب الآثام، ونحن في أشد الحاجة إلى عفة اللسان وحسن المعاملة وحلو الكلام وكظم الغيظ وضبط الانفعالات وكبح جماح الغضب، سواء داخل البيوت أو في مواقع العمل أو في الشوارع والأسواق.

إن حالة التسامي الروحي للصائم تدفعه إلى مقابلة السيئة بالحسنة والعفو عن المسيء والصفح عن المعتدي، فالصيام تربية للصائم على مقاومة شح نفسه ونزع البخل والأنانية وتعويده على المبادرة بالجود والكرم، وهو تأديب له أيضا وتهذيب لسلوكه وترسيخ قيم الإيثار والإحسان، والأهم أنه يعلم صدق المؤمن مع نفسه ومع الله -تعالى- والآخرين، لأن الصائم الحقيقي يصدق مع ربه في العبادة ومنها يستعود الصدق مع الناس.

كما أنه يعلم الأمانة، فصيام المؤمن سر بين العبد وربه لا يملك أحد حق الزعم بحقيقة صيام أحد أو الحكم على زيف طاعته حتى وإن بدا أمامه على عكس ما يجب أن يكون، فحفظ العين واللسان والأذن عن المحرمات من عورات وقذف ولغو أمر شخصي جدا يصعب محاصرته عند من في قلبه مرض أو زيغ ولم تتزكى نفسه بعد.

صدقت القاعدة الشهيرة "المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء"، وليت تسود القناعة بضرورة تنظيم أوقات تناول الطعام والشراب طوال العام، فإن استراحة المعدة مدة من الزمن ضروري لتجديد حيويتها ونشاطها، لإتاحة الفرصة أمام إذابة ما علق في شرايين من دهون وشحوم الجسم وبالتالي طرد السموم المتراكمة ومساعد ة الكبد على تعديل المدخرات الغذائية، وبهذا تكتمل الفائدة الصحية لمداواة علل الجسد بالاعتدال في تناول الطعام والابتعاد عن الإسراف المفرط والشره الزائد. تغشانا أجمل الأمنيات والآمال العريضة أن يحل علينا شهر رمضان هذا العام بالخير والبركات، وبالرحمة والإحسان والتسامح، وأن يسود الأمن والسلام، حتى تشملنا دعوة الملائكة يا باغي الخير أقبل.

صبحة بغورة  متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية 

اقرا أيضًا: صبحة بغورة تكتب: التفكير الإبداعي والتفكير النقدي