صبحة بغورة تكتب: التفكير الإبداعي والتفكير النقدي

ما من مخلوق على وجه الأرض إلا وله قدرات إبداعية، تناسب طبيعته وتتسق مع دوره في الحياة، ولكن الإنسان وحده هو من يدرك حقيقة نفسه، ويكتشف صفاته، ويعي طبيعة جوهره، ويتلمس جوانب شخصيته الإبداعية.

وتُكتَسب مهارات الإبداع الفكري في الصغر كنشاط عقلي متنامٍ، يصير مركبًا وهادِفًا ومُلِحًا في الكبر، عندما يدفعه فضوله إلى البحث عن أسس الأمور الحياتية، والتحري عن طبيعة التقلبات والتغيرات، والرغبة في معرفة أسباب الظواهر الكونية، والتحقيق في العلاقات والقوى الجاذبة والمنفرة؛ فكلها من دواعي لفت الانتباه والملاحظة، وإثارة النشاط العقلي نحو تفكير متشعب يتجاوز غالبًا الراسخ في اعتقاد المجتمع من مبادئ موجودة ومقبولة؛ لأنه لا يتحدد بالقواعد المنطقية؛ لذا لا يمكن التنبؤ بنتائج تفكير،ه أو مخرجات عمله.

إنه تفكير إبداعي، يتسم صاحبه بالشخصية الإبداعية، التي من أبرز سماتها: عدم التردد بالمبادرة بالرأي والموقف، والإسراع بالمبادأة بالجديد، والإيجابية في التعامل، مهما بلغت حدة المتناقضات، والتفاؤل في أشد الظروف.

ويميل أصحاب هذه الشخصية كثيرًا نحو الاستقلالية، ويضيقون بالضغوط؛ إذ يرون أن تفوقهم يعود إلى تميزهم الشخصي، وانفرادهم بالخصائص المؤهلة للنجاح، كما أنهم غالبًا ما يكونون منفتحين على الإثارة ورافضين للروتين، ومستمعين جيدًا لمختلف الآراء؛ فما يهمهم هو الاستفادة إلى أقصى حد من تجارب الآخرين وخبراتهم؛ حتى لا يكاد المرء يقف على حقيقة الاهتمام الرئيس لصاحب التفكير الإبداعي.

لذلك عادة ما لا يكتفي صاحبه بصياغة حل واحد للمشكلة التي تواجهه؛ لأنه يعالج أمور حياته بقدر كبير من المرونة في التعامل. ولا يعني هذا أنه يتوخى السهولة، بل يفضل تحدي الأمور المعقدة، وتحمُّل المخاطرة معتمدًا على حدسه، وتراه متسامحًا حتى في الحالات الغامضة والظروف المبهمة، كما لا يخشى الفشل، ولديه قبول كبير لذاته حتى لو بدا مختلفًا؛ لأنه شديد الثقة في النفس، ولديه تصميم وإرادة قوية، ويُثمِّن صفات الجمال.

التفكير الإبداعي

وعمليًا، يخضع التفكير الإبداعي لعدة مراحل: 1. الطلاقة: أي القدرة على إيجاد عدة بدائل بسرعة وسهولة من المترادفات والأفكار أو المشاكل عند مواجهة مشكلة معينة. وللطلاقة أنواع :

- طلاقة الألفاظ: أي سرعة تفكير الفرد في إيجاد الكلمات المناسبة للموقف بنسق جيد. - طلاقة التداعي: أي القدرة على إنتاج أكبر عدد ممكن من الكلمات والجمل ذات الدلالة الواحدة. - طلاقة الأفكار: أي القدرة على استحضار عدد كبير من الأفكار في زمن محدد. - طلاقة الأشكال: أي تقديم إضافات لأشكال معينة؛ للتوصل إلى تكوين رسوم حقيقية.

2. المرونة: أي القدرة على توليد أفكار جديدة مطابقة للأفكار المطلوبة والمتوقعة، والمهارة في توجيه أو تحويل مسار الأفكار خلال الحوار مع تغيير المثير منها. وهي تعكس قدرة الشخص على التكيف مع متطلبات الموقف. وللمرونة مظهران:

- المرونة الانتقالية: أي مهارة إعطاء أفكار متنوعة وحلول ممكنة ترتبط بموقف واحد. - المرونة التكيفية: أي إمكانية التوصل إلى حل مشكلة أو رأي بشأن موقف، على ضوء تأثير مرجعية سابقة راسخة، أو خلفية كانت مسيطرة تأتي من ذلك الموقف.

وإلى جانب هذا نسجل الأصالة؛ وهي التفرد في إنتاج الأفكار الجديدة، والتي تُعدُّ مَحَكًا للحكم على مستوى الإبداع؛ لأنها تتعلق بإنتاج ما هو غير مألوف، مع القدرة على الإفاضة أو التوسع في التفاصيل؛ باستخراج الأفكار الجزئية والفرعية.

التفكير النقدي

أما التفكير النقدي؛ فهو تفكير متقارب، يعمل على تقييم مصداقية أمور موجودة بالفعل؛ فيقبل المبادئ الموجودة في الواقع، ولا يعمل على تغييرها، ويتحدد بالقواعد المنطقية. وأصحاب هذا التفكير، لا يبادرون غالبًا، بل ينتظرون إلى حين يتوجب عليهم إبداء رد الفعل، وفق ما يمليه عليهم علم النقد من أصول وقواعد.

وقد يكون الفكر النقدي عمليًا وبنّاءً، يتعرض للمشاكل بموضوعية وحيادية، ولا يدعي احتكار الرأي، وقد ينحرف نحو التجريح الشخصي، بعيدًا عن الموضوعية والمهنية؛ حيث لا يفرق أصحابه بين إنارة الجوانب المظلمة، وبين إشعال النار في الأركان بالإساءات والمغالطات، تحت شعار "حرية الرأي والتعبير"؛ لذلك تراهم يدَّعون امتلاك الحقيقية.

والمؤكد أنَّ أفكارنا وآراءنا يجب أن تخضع في كل الأحوال لمقاييس العقل السليم، ومعايير المنطق السليم، مع مراعاة قيمة الموروث غير المادي الذي يمثل عصارة تجارب السابقين؛ بأخذ ما يتفق مع روح العصر، والاستعداد للدراسة والتحليل؛ لإجراء التغيير الذي يتواءم مع المنطق الحديث.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية 

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: تأثير التكنولوجيا الحديثة في التنشئة الأسرية