"ساعي البريد في الجبال".. فيلم يحتفي بالمهنة وينبض بالمشاعر الإنسانية

تعرض لجنة السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان، اليوم الثلاثاء في تمام السادسة والنصف مساءً، الفيلم الصيني "ساعي البريد في الجبال" للمخرج هيو جيانكي.

ويستند فيلم "ساعي البريد في الجبال" إلى سيناريو للكاتب السينمائي سي، وهو مبني على قصة قصيرة للكاتب بنج جيانمنج بعنوان "ذلك الجبل، ذلك الرجل، ذلك الكلب".

وتقع أحداث القصة في منطقة ريفية جبلية نائية في أعماق إقليم هونان بجنوبي الصين. وتتمحور قصة الفيلم حول شخصيتين رئيسيتين هما ساعي البريد (الممثل تينج روجون)؛ الذي يوشك على التقاعد، وابنه المراهق (الممثل ليو يي)؛ الذي يرافقه في آخر جولة يقوم بها لتوزيع البريد، والذي سيرث تلك المهنة عن أبيه بعد القيام بجولتهما المشتركة الأخيرة.

تغطي هذه الجولة مسافة 112 كيلومترًا يقطعها ساعي البريد على الأقدام عبر الجبال الوعرة والوديان والأنهار، في منطقة تخلو من الطرق، ولا تصل إليها العربات أو الشاحنات، ولكنها منطقة مبهرة لا بد أن يكون مخرج الفيلم هيو جيانكي قد اختارها لتصوير مشاهد فيلمه بسبب سحرها وروعة جمالها.

يقطع ساعي البريد هذه المسافة عادة خلال ثلاثة أيام بصحبة كلبه الوفي لاوير الذي يعرف الطريق جيدًا، ويساعده في أداء الكثير من مهامه، ومن ضمنها العواء قبل الوصول إلى كل قرية؛ لإبلاغ سكانها بوصول البريد.

يجد ساعي البريد نفسه مرغمًا على التقاعد قبل بلوغ سن الخمسين بعد أن هزل جسمه وتردت صحته بسبب مشقة العمل الذي زاوله على مدى سنين طويلة. وعندما يهم ابنه المراهق بتولي مهمته كخلف لأبيه، والقيام بأولى جولاته كساع للبريد يتردد الكلب لاوير في مرافقته، وهو ما كان الأب يتمنى أن يحدث؛ ليجد مبررًا لمرافقة ابنه للمرة الأخيرة في جولته؛ لكي يدله على الطريق، ويساعده في أداء تفاصيل مهمته.

يعتقد الابن، في البداية، أنه يعرف كل ما يحتاج إلى معرفته عن توزيع البريد، ولكنه يدرك مع مرور الوقت أن ما كان والده يؤديه طوال كل هذه السنين لم يقتصر على توزيع البريد، بل يكتشف أن أباه أقام مئات الصداقات والعلاقات الحميمة مع القرويين الذين يحمل لهم البريد، وأنه يلعب دورًا هامًا في حياتهم، فهو قناة الاتصال بين القرويين والعالم الخارجي، وهو الذي يجلب لهم الأخبار السارة والسيئة، ويقوم بدور الصديق والنديم والمستشار والمرشد. وتبرز خصوصية دور ساعي البريد في العلاقة الخاصة التي يقيمها مع امرأة عجوز كفيفة يقرأ لها رسائل وهمية من ابنها الذي يعيش في المدينة ويرسل لها المال من وقت لآخر، ولكنه لا يجيد الكتابة. ويدرك الابن أنه سيرث هذه المهمة.

يتعلم الابن الشيء الكثير عن والده من القرويين الذين يقابلهم، وتتغير نظرة الابن تدريجيًا نحو أبيه، الذي ينقل إليه خلال جولتهما المشتركة إحساسه العميق بالواجب والشرف وحب الغير بعد أن كان الابن يلوم أباه قبل ذلك لأنه كان بعيدًا عنه ودائم السفر، تاركًا إياه تحت رعاية أمه. وتتحول تلك النظرة من نظرة خوف إلى نظرة احترام وإعجاب وحب.

كما يكتشف الأب الكثير عن أسرته خلال الفترة التي يقضيها مع ابنه، ويتأثر كثيرًا حين يعلم من ابنه أن زوجته كانت في حالة قلق دائم عليه أثناء جولاته المستمرة، ويدرك لأول مرة الثمن الباهظ الذي دفعته أسرته طوال هذه السنين التي قضاها في أداء واجبه تجاه القرويين. ويبلغ التقارب في الصلة الشخصية الحميمة بين الأب وابنه ذروته حين يحمل الابن أباه لعبور النهر بمائه البارد، ويدرك الأب عندئذ أن ابنه قد نضج وبلغ من القوة ما يمكّنه من حمل عبء الوظيفة التي قضى الأب حياته في أدائها والتمتع بها.

ينجح المخرج هيو جيانكي بأسلوبه السينمائي شبه الوثائقي في تحويل قصة بسيطة إلى عمل سينمائي عميق ومثير للمشاعر. ونتعرف في سياق القصة مع الابن على العديد من القرويين الذين يتعلم من كل منهم شيئًا عن والده. كما يتميز الفيلم بروعة تصويره للمشاهد الطبيعية المبهرة. ولكن القصة تبرز أساسا تطور العلاقة بين الأب وابنه واستعادة شيء مما فاتهما في الماضي ونضوج ووعي الابن خلال الرحلة المشتركة مع أبيه.

إنها قصة بسيطة تشتمل على رحلة، وسلسلة من الأحاديث والمشاهد والقصص الإنسانية لمجموعة من الأشخاص العاديين البسطاء. وتخلو القصة من الذروات الدرامية، والمآسي والأزمات وحالات الطوارئ، فهي مجرد عملية لتوزيع البريد تنسج على مدى سنين عديدة الخيوط التي تربط بين حياة كل هؤلاء الناس.

يوجّه فيلم "ساعي البريد في الجبال" رسالة حب وتقدير إلى سعاة البريد الذي يستخدمون شتى الطرق لتغيير حياة الناس في سائر أنحاء العالم. ولا يقتصر الفيلم على التعبير عن تقدير سعاة البريد الريفيين، بل يؤكد من خلال ساعي البريد على التعبير عن التقدير والإعجاب لكل من يعمل جادا لأداء عمله بتصميم وتفان وإخلاص من دون أن يتوقع أي عائد لعمله.

يُذكر أن فيلم "ساعي البريد في الجبال" رشح لثماني جوائز سينمائية، وفاز بأربع منها هي: جائزة الجمهور من مهرجان تورنتو السينمائي، وجائزة ماينيشي اليابانية لأفضل فيلم أجنبي، واثنتان من جوائز الديك الذهبي، أهم الجوائز السينمائية الوطنية الصينية، لأفضل فيلم ولأفضل ممثل.