قيل إن “الاختلاف رحمة” ومن الشجاعة الأدبية أن يغيّر المرء رأيه إذا تراءت له دلائل واضحة تشير إلى أن الرأي الآخر كان هو الأصوب. وأنه أصبح لزامًا مراجعة موقفه وتصحيح رأيه على أساس موضوعي. ويعد هذا السلوك من قبيل الإحساس الصادق والعميق بالمسؤولية.
في حين أن التعامل مع الناس علم وفن، علم له أسس وقواعد وأصول، وفن يتطلب الذوق واللباقة واللياقة. وليس من اليسير أن نحوز على احترام الآخرين، لكن من السهل أن نخسر سريعًا تقديرهم.
بينما التعبير عن الرأي حق ثابت ومؤكد في دساتير دول العالم، ويحدث كثيرًا أن يعتد المرء برأيه ويدافع عن وجهة نظره بالأسلوب والشكل الذي يحقق له مصلحته. وقد يستميت وفق قناعته في الدفاع عن رأيه بعناد لمحاولة إثبات ذاته أو تأكيد قوة شخصيته أو إظهار واسع علمه وعمق درايته. ولكن كثيرًا ما يكون ذلك بشكل لا يتصل بدواعي الثبات المحمود على الرأي أو التشبث بمبررات التمسك الواعي بالموقف. إذ يصبح المرء في الحقيقة بعيدًا عن السياقات المتزنة في السلوك ولم يتحر الدقة في التقدير. وانحرف عن مصداقية الرأي وأصبح في خانة التعصب الأعمى وعلى عتبة التطرف المقيت.
مفهوم أن التعصب يولّد تراكمات سلبية تؤثر تأثيرًا عميقًا وبشكل مباشر في مصداقية العلاقات الإنسانية. ونزاهة الحديث ومقدار الثقة بالنفس، وإذ يشق عادة على المتعصب تسهيل إيضاح الأمر الصائب والتجاوب مع محاولة تصحيح مفهومه الخاطئ. فإنه يتفادى الدخول في حوار يمكن أن تتضح من خلاله حقيقة الأمور وتنكشف سطحية تفكيره وزيف ادعائه.
والحوار هو إحدى الدعائم الرئيسية التي يمكن بها تحري الدقة بالطرح والمصارحة في القول ونيل الثقة في الرأي. والذي يتفادى التمسك بفضيلة الحوار هو من لا يعي الفرق بين الاختلاف كمرادف للتنوع الطبيعي وبين الخلاف بمعنى النزاع والشقاق.
كما أنه غالبًا ما يحيل كل ما يندرج في المفهوم الأول إلى معنى الثاني دون تمييز. فيقع في فخ سقوط دعائم جسر العبور إلى الاختلاف طبقًا للتعصب للرأي بعيدًا عن الموضوعية. وبمعزل عن الإنصاف وبتحييد مبدأ قبول الرأي الآخر.
علاوة على ذلك ينطوي مفهوم حق الاختلاف على بلورة معاني التعبير الحر عن الفكر والجهر بالرأي ومشاعر الأخوة. ومواقف الدعم والتضامن في إطار سياقات واقعية لا تترك مجالًا للإرباك والتشويش اللذين يشكلان حجر العثرة أمام نشر الأفكار الواعية والسليمة.
أما التعنت وعدم التجاوب مع دعوات الحوار فهو سلوك غير راقٍ وليس حضاريًا ولا يؤدي إلى فرض الاحترام كأساس ضروري لمبدأ القبول بعد الفهم. وكنتيجة منطقية للتقبل المبني على التفهم، فالرفض أو القبول أمران خاضعان للاستنتاج الذي يتمخض عن الحوار ويسفران عن الالتزام بتحري الدقة والتناول الموضوعي للأمور.
بينما من المفترض أن الحوار يهدف في حقيقته إلى بلوغ اتفاق بين الأطراف يؤكد التلامس بين القناعات المختلفة في حدود الانسجام والرضا والتطلع إلى الأمل في الوصول إلى مستوى من التوافق. يسمح ببلوغ الحد المطلوب لتحقيق التفاعل بين إدراك العقل وسلامة المنطق وصولًا للحق والعمل بموجبه.
إن إمكانية التمسك بالقناعات الفكرية والعقائدية وترويجها وتسويقها وفرضها قد لا تسلم من التعرض لاهتزازات يمكن أن تفرغها سريعًا من محتواها. هذا إن لم يكن لها أساس راسخ في الفكر والعقيدة والوجدان، وهي قد تكون تعرضت لإعادة تشكيل صياغتها نتيجة إملاءات مضللة مشوبة بضلالات موضوعية. ومخالفات منطقية فحينها لن تقاوم رياح الاعتدال بكل أشكاله ولن تصمد أمام الرؤية المتزنة والملتزمة بالقيم الإنسانية السامية التي تحث على العدل والتسامح. ولن تقوى على الاستمرار.
وعليه يبدو أثر المعايير المنطقية كمقياس لقبول الآراء وبسطها. وعطفًا على مبدأ تقبل الرأي الآخر فإن الالتزام بلغة الحوار يؤسس لبناء علاقات نموذجية للتعايش السلمي في إطار الاحترام المتبادل الذي يمهد لتقدير قيمة الإنسان واحترام إرادته.
وبغض النظر عن تباين الآراء وتباعد الاتجاهات الفكرية واختلاف وجهات النظر، فالإنسان مكرم بالعقل وهو جدير بالاحترام طالما بقي بعيدًا عن كل تطرف ومغالاة أو تعصب أو اعتداء.
الاختلاف سنة من سنن الوجود التي لا يمكن نفيها أو نكرانها، وهو محور دوران الحياة وأساس استمرار العيش. ومن أهم ما تنطوي عليه مدلولات الاعتراف بحق الاختلاف هو وجود تقبل عميق وقناعة راسخة بالحوار كفضيلة من فضائل السمو بالعلاقات الإنسانية. والإقرار بوجود التعددية وأهميتها لإغناء الساحة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية بالفكر المستنير والرأي السديد والرؤية الثاقبة.
وحق الاختلاف في الرأي وفي وجهات النظر هو أقوى مظهر للممارسة الديمقراطية في أدق مفهوم لها؛ لأنه يعكس وجود فكر اجتهادي لدى الأفراد يؤكد أنهم عناصر فاعلة في مجتمعهم. ويثبت وجود تيار منفتح ومتجدد في شرايين الحياة.
كما أنه مظهر جليّ للاحترام المتبادل بين الرأي والرأي الآخر وليس أبدًا دليل ضعف الإنسان أو قوته. ومن مدلولاته أيضًا تأكيد الاستعداد للتعايش مع الآخرين من أتباع الديانات السماوية الأخرى. وحب إشاعة التسامح وتقاسم نشرالقيم الإنسانية السامية من أجل خير وسعادة البشرية.
في حين أن احترام الاختلاف هو في حد ذاته بمثابة ترجمة عملية للاستعداد الجدي لحماية الحريات الأساسية الفردية والجماعية السياسية والمدنية والعقائدية. أي أن الاعتراف بحق الاختلاف هو موقف صريح وواضح لدعم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاختلاف الذي يعني التميز والتفرد وعدم التطابق والتماثل هو عمومًا من العوامل المهمة في تطور الكائنات وإثراء سبل عيشهم.
وإذا كان الاختلاف هو مظهر حيوية المجتمع بتفاعل الواعي لأفراده على أساس أنه رد فعل طبيعي لأي كائن حي فإن الاعتراف به كحق لا يعني بالضرورة احترام حق التباين في الآراء الذي يزيد الخلاف ويعمق الشقاق ويطيل الأزمة. لذلك فقد يكون الإقرار بوجوده هو مقدمة لتبرير نفيه لاقترانه مثلًا بالتعالي والتطاول والمقارعة بغير جدوى.
إن الوجود الحتمي للاختلاف لا ينفي حقيقة وجود علاقة وظيفية حقيقية بين مجالات العلم والدين والمعرفة قائمة على التكامل والتداخل نحو تشكيل الوعي المشترك. حتى وإن بدت هذه العلاقة غير واضحة الملامح أو كانت تتميز بالنقيض والتضاد، فكثيرًا ما تعكس الاختلافات تعدد المناهج التي تهبنا ولادة أفكار جديدة ومستمرة تكسبها العلاقة الجدلية متانتها.
لقد أصبح احترام فضيلة الاختلاف كثقافة فرضًا كرسته مبادئ الديمقراطية والأديان السماوية حتى يتبين الغي من الرشد. لأنها الدافع الذي يستفز اللجوء إلى تلاقح الأفكار والسبيل الذي يقود إلى حتمية الاعتماد على تبادل الآراء. تحقيقًا للتلمس الواعي لجوانب الحياة بكل شفافية وتوخي الوضوح في أسباب التقدم والازدهار. حيث لم يعد بإمكان أي طرف نكران فضائل كينونته الثابتة في الوجود وتحري منافع حقيقته المؤكدة في حياتنا. أو الادعاء المقيت باحتكار الرشادة في الرأي والزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة.