يُعرّف النقد بأنه الجدل العقلي؛ حيث يتيح إعمال العقل، كما أن العملية النقدية فطرية وتسبق إبداع الفنانين، وهي نتاج حالة من التفاعل والحوار والتراكم الفني والثقافي، ثم قراءة مُركّبة تعتمد على الفكر والخيال والثقافة والمعرفة بجانب الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
ولا تكتمل العملية الإبداعية بدونه؛ لذا فاختلاف النقاد يعد ميزة للفن وتوسيعًا لآفاقه وتحريره من أي حدود ضيقة وتوجيهات ملزمة.
ويقع العبء على الناقد في مد الجسور بين المجتمع والفنون وهي مهمة تحتاج إلى وعي وفهم لهذا الدور المستنير والمهم.
وفي رحاب النقد الفني وأهميته، صدر مؤخرًا كتاب قيّم يُعتبر إضافة للمكتبة المصرية والعربية تحت عنوان “دليل الناقد السينمائي” للأكاديمي والناقد الدكتور وليد سيف؛ أحد أهم نقاد السينما في مصر والوطن العربي.
وبين دفتي الكتاب مائتي وثمانين ورقة مقسمة لمقدمة وثمانية فصول، اشتملت مفهوم النقد الفني وأهميته، والعلاقة شديدة الثراء بين الناقد والفنان والمتلقي، وتضمن أيضًا مدارس النقد والتطرق للفلسفة الوجودية، والبنيوية، والموضوعية، والواقعية.. وغيرها.
وانتقل بنا إلى النقد السينمائي وبدايات النقد ومبادئه، ثم تطرق إلى النقد السينمائي في مصر، وكيف لعبت صفحة السينما دورًا في الوعي النقدي بمجال السينما منذ عام 1933، أعقب ذلك التفرقة بين مفهومي النقد والتحليل عامة وبالنسبة للأفلام خاصة.
وأشار الكتاب لأهمية التحلي بالموضوعية في الحكم على الأفلام، وذكر كيفية كتابة المقال النقدي من داخل مطبخ الكتابة.
وتلت هذه الفصول موضوعات متعمقة سينمائيًا وربطها بالأفكار الفلسفية والفنون الأخرى وظهر ذلك في عناوين: السينما وما بعد الحداثة، النقد وفنون الدراما، نحن وثقافة الفيلم الأجنبي، نحو خطاب نقدي جديد، واختتم الكتاب بملف للمقالات كجانب تطبيقي لما سبق التعرض له.
والكتاب يحوي: الجانبين النظري والتطبيقي بكتابة قصصية حكائية وفي بعض الأحيان ساخرة؛ ما يجعلها أكثر عرضة للقبول والتفاعل من جانب القارئ، أما سيميائية عناوينه الفرعية فهي ذات دلالات واضحة بأسلوب بسيط مثل (لست وحدك، ندوة غاضبة، أمور محيرة).
والحقيقة أنني استمتعت بمحتواه أيما استمتاع ليس فقط لأنه مجال عملي، ولأنني أنتمي للمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون وهو صُلب تخصصنا المهني.
ولكن لما يتضمنه الكتاب من أسلوب شيّق ورشيق وجهه مؤلفه للعامة قبل المتخصص، وبالتالي فالكتاب يحمل قيمة مضاعفة، ومعلومات إثرائية مهمة بسلاسة ويسر.
ومع تتبع الصفحات الاستهلالية في مقدمة الكتاب، نجد المؤلف يطرح بعض الأفكار الذاتية التي تجعل من أسلوبه الحكائي قصة مثيرة للقارئ، بما يتناوله من علاقته بالنقد وكيف بدأت، وبرشاقة يأخذنا في معية المذكرة المفقودة والتي أفرد لها عنوانًا داخل مقدمة الكتاب، وبسببها أعدّ مذكرته الخاصة والتي كانت نواة للشروع في هذا الكتاب الذي نقل من خلالها خبراته وتجاربه بأمانة لكل المهتمين بالنقد؛ من دارسين وهواة وشباب.
حيث يصف الكاتب علاقته بالنقد الممتدة عبر الزمن لما يزيد على ربع قرن بتراكم الخبرات المعرفية والكتابة النقدية التي بزغت مبكرًا من خلال نشرة جمعية الفيلم في منتصف الثمانينيات والتواصل مع نشرة نادي سينما القاهرة.
ولقناعة الكاتب بدور الناقد في العملية الإبداعية وتطورها، فقد تناول أصول النقد وأسراره ووظيفة الناقد، لكنه لم يكن في إطار نظري صارم، وإنما متضمنًا الكثير من النماذج والأمثلة التطبيقية والخبرات الشخصية التي توضح ما يبطنه الكتاب من نظريات وأفكار.
كما لفت انتباهي جرأة المؤلف في طرح الكثير من الموضوعات، وأهمها تناوله عددًا من الأفلام في إشارات واضحة بالسلب أو الإيجاب دون الأخذ في الاعتبار أي علاقات شخصية -تنبني عليها نجاحات أو إخفاقات- في تقييمه النقدي الموضوعي، بل إنه يتحلى بجرأة التناول التي يفتقرها كثير من النقاد الذين يسبق تقييمهم حسابات ومواءمات قد تضعهم في مصاف المرضي عنهم أو المغضوب عليهم.
وخلال صفحات الكتاب، فرّق المؤلف بين عمليتي التحليل والنقد، وهو أمر مهم الإشارة له؛ حيث الخلط بين الدورين، ولكن التحليل دائمًا ما يسبق النقد، والناقد لديه القدرة التحليلية للعمل بأسلوب متوسع ومتخصص ودقيق.
لكنه قد لا يكون مضطرًا لتحليل أو استعراض مختلف جوانب العمل الفني، بل هو مسؤول عن التعرض لأهم جوانبه والتي تؤكد رؤيته النقدية التي تعمل على مزيد من الفهم لهذه الأعمال الفنية، وتثقيف القارئ وزيادة مداركه.
كما أشار إلى نقطة جدلية مثيرة حول الاختلاف بين الصحفي ودوره المهني وبين الناقد المتخصص، وأسهب شارحًا مدارس النقد المختلفة، مع توضيح أن ممارس النقد قد ينتقل من مدرسة لأخرى، وهو هدف لا ينبغي أن يشغل الناقد كثيرًا أثناء تصديه للعمل الفني.
وأكد أننا لسنا بمعزل عن سوق العمل والمحيط الخارجي، الأمر الذي يعيد تفكيرنا في تأهيل الناقد علميًا ودراسيًا ليكون لدينا جيلٌ عتيد من النقاد المتخصصين بهدف الارتقاء بالعملية الإبداعية.
كذلك، تناول نقطتين شائكتين، وهما علاقة الفن بالأخلاق، والعلاقة بين الأعمال الجماهيرية ورؤيتها النقدية، وهو أمر مهم في ظل ما نشهده من تغيرات أصابت الفن ومتذوقيه في معترك حقيقي.
ويرجع الكاتب أهمية النقد في عدد من النقاط يلخصها في الآتي:
– يعمل النقد الفني دورًا فعالًا وإيجابيًا لهؤلاء المنشغلين في إنتاج الفن بكل مجالاته وتخصصاته؛ لمعرفة أوجه القوة وإبرازها وتطويرها، وأوجه الضعف لتجنبها.
– دور النقد في تطوير الثقافة البصرية والسمعية بمساعدة الأفراد في حسن التلقي والتذوق السليم للأعمال الفنية، فقد يغفل المشاهد كثيرًا من مواطن الجمال السمعية والبصرية التي يحتشد بها العمل فينبهه لها الناقد.
– يوسّع النقد الفني قاعدة المعرفة والخبرة؛ حيث الخلفيات التاريخية والاجتماعية والنفسية.
– يتيح للجمهور النظر إلى العمل من زاوية جديدة.
– النقد الفني يُكسب الوعي الذاتي بتوجيه الجمهور نحو استخلاص المعنى والشعور من الفن باعتباره أعظم الإنجازات البشرية.
– تصنيف العمل الفني وتحديد مستواه.
– يساعد في شرح المعاني الغامضة، وتفسير الرموز التي قد يتضمنها العمل الفني.
– يستكمل الناقد الجوانب التي اكتفى الفنان بالتلميح لها دون التعرض لها بشكل مباشر لأن المباشرة عادة ما تكون ضد الفن.

ومن وجهة نظري، أرى أن عملية النقد هى عملية إبداعية فى ذاتها، حيث تفتح آفاقًا جديدة وبعيدة قد تضئ العمل الفنى من عدة جوانب لاكتمال عملية الاتصال مع المتلقى فتكتمل العملية الإبداعية.
وإن كنا فى حاجة لإبداع الفنان، فنحن أيضًا فى حاجة لإبداع الناقد. وإن كان النقد دائمًا يؤكد حرية الرأى ولا ينشد أحادية الرأي والرؤيا.
لذلك فهو يهدف لإيقاظ الوعى الإنسانى عن طريق القدرة على الرفض باعتبارها عملية رفض وتحد وليست خضوعًا واستسلامًا.
اقرا أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: أغنيات شاركت في صناعة النصر