د. رانيا يحيى تكتب: فؤاد الظاهري وإبداعاته للسينما

موسيقى الفيلم هي إحدى الجماليات التي تتميز بها السينما من خلال لقطاتها المعتمدة على عنصر الموسيقى ومجموعة من النغمات، وبدونها لا تكتمل القيمة الفنية للعمل السينمائي، ومن هنـا تظهر أهمية الموسيقى باعتبارها مكـونًا أساسيًا للفيلم وليست مكملًا له.

فؤاد الظاهري

وحينما نتحدث عن الموسيقى في السينما المصرية، لا بد أن نذكر أحد النجوم المتلألئة في سماء السينما المصرية والعربية؛ لكونه عبقرية موسيقية فذة بكل ما قدمه من أعمال تحمل قيمًا إبداعية نادرة.. إنه فؤاد الظاهري صاحب الإنتاج الموسيقي الأشد غزارة والأكثر تدفقًا في نفوس الجماهير؛ لارتباطه بأعمال سينمائية تُعد علامات لا تُنسى من ذاكرة السينما العربية.

ينتمي فؤاد جرابيد بانوسيان؛ المولود يوم 15 أكتوبر عام 1916، للجيل الثاني من المؤلفين الموسيقيين، ولُقب بـ "الظاهري" نسبة إلى حي الظاهر الذي شهد مراحل متعددة من حياته. درس الموسيقى بمعهد فؤاد الأول، وارتبطت موسيقاه بالفنون الأخرى؛ حيث وضع موسيقى لبعض المسرحيات والمسلسلات التليفزيونية، وأثرى الأفلام السينمائية الروائية بموسيقاه في عدد كبير من الأفلام قد لا يتعداه غيره من الموسيقيين؛ ونظرًا لامتلاكه حاسة فنية عالية، بجانب قدرته على استخدام التقنيات الموسيقية والأساليب المختلفة للكتابة الأوركسترالية، قدم موسيقى متميزة ذات أبعاد فلسفية للأفلام، كما أن ثراء أفكاره اللحنية وغزارتها يبرزان موهبة خلاقة ومتجددة، فألحانه متدفقة تتسم بالبساطة أحيانًا حسب السياق المكاني للفيلم، وفي أحيانٍ أخرى يصنع ألحانًا جادة ومتميزة.

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]رانيا يحيى د. رانيا يحيى[/caption]

ومن أهم ما نلحظه في مؤلفاته قدرته الفائقة على المزج بين الشرقية الصميمة المتدفقة في مشاعره الداخلية بحكم تكوينه الفطري، وبين تأثره بالموسيقى الغربية الناتجة عن دراسته العلمية لأصول القواعد الموسيقية من هارموني وكنترابينط وخلافه، فخرجت لنا موسيقاه بأبعاد جمالية ورؤى موسيقية مبدعة وجاذبة خاصة في مجال موسيقى الأفلام، باعتباره أحد روادها وأعماله مرجعًا حقيقيًا لكل من يرغب في الكتابة الموسيقية السينمائية.

وتميز "الظاهري" أيضًا بتوظيفه لبعض التيمات اللحنية الشائعة من الفلكلور المصري في مؤلفاته؛ لتأصيل فكرة عامة لدى المتلقي أو دفع شعور الجمهور نحو اتجاه سيكولوجي معين، كذلك قدرته على بناء ألحان منبثقة من التعامل مع الموتيفات اللحنية الصغيرة والجمل البسيطة ليستفيد من شهرتها ويحقق نجاحًا مضاعفًا لموسيقاه. ولا يمكن إغفال تأثير الصوت البشرى لديه وقدرته الفذة على توظيفه بجودة فائقة في بعض أعماله؛ حيث عبّر بالكورال عن أكثر من حالة وجدانية، سواء بالغناء لبعض الأفكار الموسيقية داخل العمل أو لإثراء التكوينات الآلية ببعد جمالي آخر باستخدام "الفوكاليز"؛ أي الغناء بالآهات بدون كلمات محددة ذات مدلول لغوي، وفي هذه الحالة يكون التأثير نفسيًا للسيطرة على عقل وقلب المتلقي بشكل غير مباشر، خاصة عند وضعها في بعض المشاهد التي تتصاعد فيها الأحداث دراميًا فتكون أكثر تأثيرًا في تعاقب الانفعالات الحزينة والمأساوية داخل العمل الدرامي.

وعنصر الإيقاع عنده له أثر بالغ العمق داخل ألحانه الموسيقية، واستخدام آلات الإيقاع الشرقية مثل الدف والرق والطبلة يدفع الشعور إلى الاتجاه الشرقي الراقص أو ليفرض شعورًا دراماتيكيًا معينًا، بالإضافة لاستعمال الآلات الإيقاعية الغربية، خاصة "التيمباني" التي وظفها بحرفية في أعماله؛ لما لها من قدرة على تقوية المشاعر الوجدانية بقوتها وتأثيرها الأدائي المتباين، فضلًا عن استخداماته للمثلث والأجراس في كثير من الأحيان.

فؤاد الظاهري

أما تكويناته الآلية فتعتمد كثيرًا على آلات النفخ الخشبية التي يوليها غالبية الألحان الرئيسية، أيضاً ارتكازه على آلة الناي الشرقية لصنع رنين صوتي مميز يجمع بين التقليدية والتجديد بالمزج مع الآلات الغربية، وآلة القانون بصوتها البديع وإمكاناتها التكنيكية العالية وقدرتها على أداء المقامات الشرقية بأحاسيس تجمع ما بين الشجن والفرح، ما جعله يحسن توظيفها، وكذلك استخدامه لآلتىي الترومبيت والكورنو النحاسيتين لبعث إحساس قوى يصدر عن هاتين الآلتين، مع التركيز على بعض الآلات الأوركسترالية الغربية غير الشائعة الاستخدام في موسيقانا الشرقية، مثل البيكولو والكورانجليه والفيولا والهارب، ما أثرى موسيقاه بلون صوتي بديع يؤكد قدرته على انتقاء الآلات الموسيقية بشكل بارع.

وكان للآلات الوترية، خاصة الفيولينة، دورٌ في التعبير عن كثير من الأحداث الدرامية والتفاعلية داخل أفلامه السينمائية، وأعتقد أن عزفه للفيولينة خلال سنوات الدراسة أعطاه الفرصة للسيطرة على هذه الآلة بشكل كبير واستنباط كل الإمكانات الصوتية والأدائية التي تضفي مزيدًا من الوعي والتهيئة للأفكار المطروحة على الشاشة.

ومن مهاراته الموسيقية إظهاره للتناقضات على الشاشة باستخدام التباين بين آلات حادة وغليظة في الوقت نفسه لصنع حالة وجدانية فريدة، هذا بالإضافة لكتابته لآلة البيانو وقدرته كمؤلف على الانتقال من إحساس لآخر ينتقل معه المشاهد بسرعة فائقة، مثل الفرح والخوف والقلق والترقب والانتظار وغيره ببراعة وحرفية من خلال التقنيات الآلية التي تساعده في تأكيد هذه المشاعر، وأيضًا تنم توزيعاته للأوركسترا عن موسيقي لديه دراية واسعة واهتمام واضح بالكتابة الأوركسترالية، سواء باستخدام البوليفونية وتعدد الألحان داخل النسق الآلي أو لتوزيعاته الهارمونية رفيعة المستوى.

ويجب أن نؤكد استخدامه لفكرة اللحن كمدلول لشخص أو مكان بعينه بتيمة لحنية تتكرر وترتبط في أذهان المشاهدين، كذلك استخداماته للمقامات الشرقية لإظهار البيئة الشرقية الصميمة، وقد يصنع تيمات لحنية ذات طبيعة شرقية؛ للتعبير عن البيئة الريفية أو الصعيدية المصرية بدون استخدام مقامات شرقية، فهو يحسن توظيف السلم أو المقام الموسيقي بما يخدم أهدافه وغاياته دون التقيد بمقامات بعينها تحد من إبداعه وتخضعه لخصائصه، فتولدت ألحانه بما فيها من فطرة وإبداع داخل إطار التعبيرية والواقعية في أفلامه.

وأشير هنا لموسيقى التتر والتي غالبًا ما يضع فيها "الظاهري" خلاصة أفكاره اللحنية فتعتبر نموذجًا مصغرًا لمحتوى الفيلم نستنبطها إذا عدنا لسماعها بعد الانتهاء من الفيلم فستشعر حجم عبقريته في ترجمة مضمون القصة كاملة في أفكار موسيقية لا تتعدى دقائق محدودة، يستقي منها بعض الأفكار اللحنية ليستخدمها داخل الفيلم مع التنويع عليها. رحم الله من أسهم في صنع روائع السينما بموسيقاه.

اقرأ أيضًا: «عين المنتقي».. معرض أوبونتو السنوي يسلط الضوء على أعمال الراحل نور اليوسف