“بريد الليل”.. رسائل لن تصل

كتب: محمد علواني

جملة رسائل كتبها أشخاص مُهجرون، مأزومون، غائبون، لكنها رسائل لم تصل إلى من أُرسلت إليهم، فقد مات ساعي البريد ووقعت الرسائل في يد من لم تُرسل لهم، وربما حُرقت، قد يكون هذا تلخيص مبسط لرواية “بريد الليل” للكاتبة هدى بركات، التي حصلت على جائزة البوكر مؤخرًا.

تبدأ الرواية برسالة رجل غريب مهاجر، يرسل رسالة إلى معشوقته أشبه بالاعترافات، إنها رسالة رجل غريب يرفض التوطن في مكان آخر، رسالة رجل يعاني ويلات الفقر والغياب، رسالة مشتتة كروحه الغريبة والمبعثرة على جنبات الطرقات.

وهو رجل يعاني معاناة مضاعفة، ومعشوقته التي يكتب إليها أحد تجليات معاناته:

” أنا حزين فعلًا، إذ أكتب إليك عن ترددي؛ عن رواحي ومجيئي بين راحة التخلص منك ومأساة خسارتك وفشلنا معًا”.

وهذه امرأة تنتظر في غرفة فندق رجلًا فتعثر في أحد أدراجها على رسالة الرجل الأول، وربما تكون هذه الحبكة السردية التي اعتمدتها “هدى بركات”، فكل رسالة من الرسائل المرسلة عبر هذه الرواية تقع، في الغالب، في يد شخص غير الشخص المقصود، غير أن كل مرسلي الرسائل والمرسلة إليهم يجمعهم الفقر والتشتت والغربة والغياب.

تشعر هذه المرأة المنتظرة أن ثمة شبه بينها وبين كاتب الرسالة الأول فتقول لذاك الرجل الذي تنتظره:

“لماذا أخبرك بهذا كله؟ كي أتسلى قليلًا وأنا انتظر، ولأن وحشة ذلك الرجل، كاتب الرسالة، تشبه وحشتي كثيرًا.. ولو أن حكايته لا تشبه حياتي في شيء، لكني أحسست بشكواه كأني صديقة قديمة أو كأني أنا نفسي المرأة التي يتكلم عنها”.

اللافت في هذه الرسائل أنها ناقصة غير مكتملة، وهل للشريد ثمة يقين أو مستقر؟، فضلًا عن أن هذه الرسائل لا رد عليها.

وثالث رسالة، فهي من رجل غريب إلى أمه، هي كما الرسالة الأولى، رسالة اعترافات، بيد أن اعترافات هذا الرجل مختلفة تمامًا، فهي اعترافات بجرائم، وليس مجرد اعتلالات نفسية؛ فقد ارتكب هذا الرجل الكثير من الجرائم والفظائع، حتى انتهى به الحال إلى قتل تلك المرأة العجوز التي آوته إليها في إحدى المدن الأوروبية.

والرسالة الرابعة لا تختلف، من حيث انغماسها في الجرائم، عن رسالة هذا الرجل إلى أمه كثيرًا، فهي رسالة امرأة تبعث بها إلى أخيها، لتحدثه عنها وعن حياتها، وعن انخراطها في أعمال ووظائف شتى، حتى انتهى بها المطاف إلى أن تعمل عاهرة.

أزمات هذه المرأة أشد وقعًا، وأخطر أثرًا، فقد حولتها المصائب والمحن إلى شخص لا قلب له، وربما إلى إنسان قادر على تبرير كل شيء منطقيًا مهما كانت درجة جُرمه.

وثمة ملاحظة هامة في هذه الرواية، أو بالأحرى على مرسلي هذه الرسائل، وهي رغبتهم في البوح، حتى ولو إلى شخص غريب، وكأن المصاعب والأزمات أثقلت كواهلهم فرغبوا في التخفف، والتخفيف عن أنفسهم عبر التحدث إلى آخرين، وقد رأينا هذا واضحًا جدًا في رسائلهم؛ فمعظمها رسائل طويلة، غير مرتبة، ربما يكون الهدف منها مجرد البوح والكلام فقط.

ولا تختلف بقية رسائل الرواية عن هذه الرسائل السابقة، من حيث الرغبة في الحكي والكلام، أو من حيث معاناة ألم الهجرة والغياب.

وخلال هذه الرسائل جميعها تتمكن الروائية اللبنانية هدى بركات من وصف وتشخيص الحالات النفسية لكاتب كل رسالة بدقة شديدة، ومهارة سردية ولغوية لافتة.

ولكي تتم معاناة أصحاب هذه الرسائل، فإن رسائلهم لن تصل فحسب، بل سيموت ساعي البريد كذلك، ولن يموت قبل أن يتجرع معاناة مرسلي هذه الرسائل أنفسهم، فسوف يذوق ويلات الحروب، ويترك بيته، ويتخلى عن كل شيء مجبرًا، وسيتقاعد عن وظيفته، وإنما سيحتاج هو نفسه إلى ساعي بريد لإرسال أوراقه، وهو الأمر الذي يعني أن كل هذه الرسائل لن تصل أبدًا.

الرابط المختصر :