الطبيبة والعالمة السعودية ملاك الثقفي: تدشين مشروع "الجينوم السعودي" يضعنا في مصاف الدول المتقدمة

 

تُمثل العالِمة والباحثة والطبيبة السعودية، ملاك عابد الثقفي؛ إحدى الوجوه الوضيئة التي يفخر بها السعوديون، كونها حققت نجاحات باهرة في مجال طبي صعب ودقيق؛ إذ تخصصت في علم الأمراض الجينية والاكلينيكية، وبرزت كأكاديمية مرموقة بأشهر الجامعات الأمريكية، قبل أن تعود للوطن وتلتحق بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، ومدينة الملك فهد الطبية، وتقدم خبرتها وعلمها من خلال إدارتها للمراكز والفرق البحثية المتخصصة في مجال الأحياء الدقيقة وعلوم "الجينوم".

في هذا اللقاء منحتنا الدكتورة ملاك، مساحة من وقتها الثمين؛ لتجيب على أسئلتنا حول حياتها العلمية والعملية والخاصة، فكانت هذه السياحة الممتعة معها..

بدايةً نود التعرف عليكِ عن قرب، مَن هي ملاك الثقفي؟

- طبيبة وباحثة أكاديمية سعودية، تخصصت في مجالات طب الأمراض الجينية الجزيئية وعلم الأمراض العصبية والاكلينيكية.

أعمل في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية مع فريق بحثي رائع في معهد علوم الأحياء والبيئة كأستاذ بحث، ورئيس قسم أبحاث الجينوم في مدينة الملك فهد الطبية، وكذلك مع فريق إكلينيكي متميز، كمدير طبي في المعمل الوراثي في الشركة الدولية لمستشفى الملك فيصل التخصصي، ومحاضر غير متفرغ بكلية الطب بجامعة هارفارد. قررت أن أفعل شيئًا في حياتي بشكل مختلف قليلًا بعد التخرج في كلية الطب، فاخترت تخصصًا لم يكن معروفًا، وكم من مرة رأيت علامات تعجب عن اختيار تخصص مختلف لم يختره أحد من قبل ومستقبله غير معروف، لكنه كان شغفي.

كان السفر بالنسبة لي صعبًا، وكان أملي الوحيد ـ بعد الله ـ هو برنامج المنح الدراسية والذي منحني إشراقة جديدة في مستقبل آمل أن أصل إليه يومًا، فلم تكن رحلتي إلى الولايات المتحدة سهلة، فهي تجربة جديدة لي وتحدٍ كبير لي كفتاة سعودية، والأهم كطالبة تواجه صعوبات مالية وأسرية.

استغرق كل ذلك مني 11 عامًا، بعيدًا عن أهلي وأصدقائي، بعيدًا عن الأرض التي أنتمي إليها؛ لتحقيق ما أحلم به لمساعدة الإنسان في بلدي في تخصص نحتاجه جميعًا.

كيف كانت طفولتك، وهل أحببتِ العلوم منذ صغرك؟

عشت طفولتي في مكة المكرمة حتى تخرجي من الثانوية، وكانت طفولة مختلفة لأنني ولدت بمرض استدعى وجودي بالمستشفيات لفترات طويلة، وكانت هذه التجربة الدافع الرئيس لي لخوض التحدي لدراسة الطب وعلوم الجينات منذ نعومة أظافري.

كذلك، وجودي في مكة المكرّمة وسَّع مداركي على العالم حتى قبل مغادرتها، وذلك لعمل أسرتي منذ عقود في خدمة حجيج بيت الله الحرام بمجال الطوافة.

لماذا اخترتِ التخصص في مجال طبي دقيق وصعب هو "علم الجينوم"، هل كان الأمر تحديًا؟

كما ذكرت، كانت ظروفي الصحية الدافع الأكبر لاختيار دراستي، وتجربتي المرضية تحت إشراف طبيبة متميزة اسمها الدكتورة "نادية السقطي" جعلني أتأثر بها وأرغب في أن أتخصص في مجال كمجالها، بالرغم من أنني اختلفت عنها قليلًا لكن جمعنا حب الجينات.

بخلاف ذكائكِ ونبوغكِ العلمي، من الذي مهد لكِ الطريق لتحقيق كل هذه النجاحات العلمية؟

كل ذلك بتوفيق من الله عز وجل، وبدعاء الوالدين والمرضى وأهاليهم. كذلك، مهّدتْ لي الدولة ـ حفظها الله ـ الفرصة في النهل من أفضل الخبراء في الولايات المتحدة عندما فتحَت برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، وعندما عدت للوطن هيّأت لي الفرصة في العمل في مشاريع وطنية كبرى، مثل: "مشروع الجينوم السعودي" التابع لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.

حدثينا باختصار وتبسيط عن "علم الجينوم"، وما هي أحدث تطورات الأبحاث حوله عالمياً؟

هذا المجال تطور بشكل جبّار في العقد الأخير، وأحدث طفرة كبيرة في مجال الطب، وأصبح هناك ما يُعرف باسم الطب الشخصي أو الطب الدقيق، باختصار أصبحنا في مرحلة تطبيق اكتشافات الجينوم في إيجاد علاجات لكثير من الأمراض باستخدام خارطتها الوراثية، حيث انخفضت التكلفة لفحوصات قراءة تسلسل الجينوم، والتي كانت تُكلّف مبالغ طائله تتجاوز ملايين الدولارات قبل أقل من ٢٠ عامًا، إلى أقل من ١٠٠٠ دولار حاليًا، ما جعل ممارسة مثل هذا الطب الدقيق ممكنًا داخل العيادات الطبية.

"الجينوم" كلمة تعني دراسة مجموعة من الجينات وليس جينًا واحدًا كما كان في السابق، وله تطبيقات كثيرة في الأمراض الوراثية، السرطانية، المعدية، والمزمنة، كأمراض القلب والسكري والسمنة، وكذلك العديد من الأمراض النفسية وغيرها الكثير .

وأصبحت هناك العديد من المشاريع الوطنية التي تتبناها الدول المتقدمة لدراسة الخارطة الوراثية لشعوبها، ويحق لنا كسعوديين أن نفخر بأن نكون مع تلك الدول المتقدمة، بوجود مشروع مثل "مشروع الجينوم السعودي"، والذي دشّن معامله الحديثة هذا الشهر سيدي ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان؛ في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، معطيًا بذلك اشارة للعالم بأن المملكة ماضية في توفير أفضل وأرقى الطرق البحثية والعلاجية لشعبها.

وهل هناك سعوديون كُثر تخصصوا في هذا المجال؟

يجب أن نفرق أولاً بأن هناك عدة تخصصات منها البحثي ومنها الإكلينيكي، وبالرغم من وجود عدد جيد ممن درس هذه العلوم من النواحي البحثية، لكن لا يزال هناك نقص في أصحاب التخصصات الإكلينيكية، خصوصًا في المناطق غير الرئيسية، نظرًا لكبر مساحة المملكة وكثرة الأمراض الوراثية.

كيف ترين مكانة المملكة في مجال البحوث العلمية والمختبرات الطبية، وما الذي ينقصها؟

أرى أننا من أفضل الدول في منطقة الشرق الأوسط في هذا المجال، وهذا الكلام أشادت به جهات خارجية لها تقديرها، مثل: مؤشر مجلة "نيتشر" والذي وضع ترتيب المملكة البحثي في مرحلة متقدمة، وما ينقصنا فقط تكثيف الجهود وعمل فرق بحثية متكاملة.

إلى أين وصل مشروع "الجينوم السعودي" بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم، وما المأمول أن يقدمه لمواطني المملكة؟

المرحلة الأولى للمشروع انتهت، وكانت تشمل تأسيس البنية التحتية، ونقل وتوطين التقنيات، وتدريب الكفاءات، ودراسة الأمراض الوراثية الشائعة في المجتمع السعودي.

وهذا العام انطلقت المرحلة الثانية، وتشمل دخول تقنيات جديدة وتوسعة المساحات التخزينية للبيانات الجينية، ودراسة أمراض مختلفة، مثل السرطان، كذلك تم الانتهاء الآن من دراسة أكثر من ٤٥ ألف عينة، وسيتم قريبًا تدشين فحص ما قبل الزواج الموسّع، والذي يشمل عدة طفرات لأمراض وراثية وجد أنها شائعة عند السعوديين، بالتعاون مع وزارة الصحة.

إلى أي مدى يمكن أن يلعب زواج الأقارب دورًا في ظهور بعض الأمراض الوراثية على الأبناء؟

يلعب دورًا كبيرًا، لأن أغلب الأمراض الوراثية تورث بشكل صفات متنحية، ما يعني أن كلا الأبوين يكون حاملا للطفرة الوراثية، وعند زواج الأقارب تزداد الفرصة في وجود مثل هذه الصفات المتنحية بينهم.

برأيك، ما هي أسباب هذا الانتشار المخيف لمرض السرطان في بلادنا العربية مؤخراً؟

هناك عدة أسباب لهذا الانتشار، أهمها أن التقنيات الطبية أصبحت أفضل بكثير في اكتشاف الكثير من الأورام، حتى عندما يكون حجمها مليمترات، بالإضافة إلى الأسباب الأخرى التي تعود لعوامل حياتية مختلفة، مثل انتشار عادة التدخين بكافة صوره بين الجنسين، وعدم الأكل الصحي وعدم ممارسة الرياضة.

أيضًا، العامل الوراثي قد يكون موجودًا بشكل أكبر في دولنا العربية لتوريث متلازمات السرطان بنسبة أعلى من الموجودة في الدول الغربية، مما قد يفسر كثرة أعداد المصابين عندنا في سن صغير، وكذلك إصابة عدة أفراد من العائلة الواحدة.

هل نحلم في القريب بأن يتوصل العلم لعلاج ناجع لهذا المرض؟

هناك بالفعل الكثير من العلاجات الناجحة لكثير من الأنواع من المرض، ومع دخول الطب في مرحلة الطب الدقيق؛ سنرى الكثير من العلاجات التي تدخل السوق بناءً على خارطة الورم الجينية.

وأحب أن أوضح بأن السرطان أنواع عديدة، وليس كل شخص مثل الآخر حتى لو كانوا مصابين بسرطان في نفس العضو، وهذا ما يجعل القضاء عليه أمرًا ليس سهلًا.

هل ترين أثرًا واضحًا للحملات التوعوية للنساء بضرورة الكشف المبكر لسرطان الثدي؟

نعم، أعتقد أن التوعية الاَن موجودة بشكل أفضل منه بكثير قبل عشر سنوات ماضية.

‎هل تعتقدين أن المرأة السعودية قطعت أشواطًا بعيدة في قضية التمكين؟

المرأة السعودية قوية وشهادتي فيها مجروحة، والدولة في عهد والدي، الملك سلمان وولي عهده مجدد الرؤية الأمير محمد بن سلمان ـ حفظهما الله ـ أدركوا أن المرأة جزء أساسي من النسيج السعودي وأعطوها الكثير من حقوقها ودعموها بقوة.

وما الذي ينقصها الآن برأيك؟

نتمنى وجود المرأة بشكل أكبر في مناصب رفيعة، مثل دخولها مجلس الوزراء، وأتمنى تشجيع المرأة لتولي مراكز قيادية عليا خاصة في دوائر صنع القرار، خصوصًا في مجالات العلوم والتكنولوجيا.

ما هي نصيحتك لطالبات وطلاب تخصص علم الأمراض الجينية؟

نصيحتي لهم القراءة عن هذا المجال والنظر له كتخصص، لأن بلادنا ما زالت تعاني من وجود نقص كبير في توفر المتخصصين، خصوصًا بالمجالات الإكلينيكية.

كذلك، هذا المجال له تطبيقات بحثية كثيرة لمن يرغب في المجال الأكاديمي البحثي.

بعيدًا عن الطب، كيف تقضين أوقاتك، وما هي اهتماماتك الأخرى؟

أمارس الرياضة، وأحب تربية الحيوانات الأليفة، وسماع الكتب المقروءة، والسفر.

من هو الشخص الذي تُهديه هذا النجاح الذي حققتهِ؟

كل شخص وقف بجانبي، طوال حياتي ولأمي وأبي، والإهداء الأكبر للوطن الذي لم يبخل على بناته بشيء.

هل حقّقَتْ ملاك كل طموحاتها في حياتها العملية، وما هي خططك المستقبلية في الحياة والعمل؟

طبعا لا! ولن تتحقق أبدًا حتى مماتي، فأحلامي لا تنتهي، وكلما حققت إنجاز أرغب في تحقيق إنجاز أفضل منه.

هل تعتقدين أن الثورة الهائلة في وسائل التواصل الحديثة مفيدة للتحصيل العلمي وتطوره، أم أنها مُعيقة له؟

هي سلاح ذو حدين؛ توفر العديد من المصادر والمعلومات بضغطة زر، لكن قد تفقد التركيز وتسبب التشتت إذا أصبحت إدمانًا.

بما تنصحين السيدة السعودية لتكون قائدة في مجالها؟

أن تستمر قوية كما عهدتها، وسيأتي اليوم الذي تحقق فيه كل أحلامها.

مَن هو قدوتك في الحياة؟

أشخاص كثيرون يصعب حصرهم؛ لكن سمو الأمير محمد بن سلمان له شخصية قيادية تعجبني كثيرًا.

بعد كل هذا النجاح والشهرة، ما هي الأمنية التي تتمنيِ تحقيقها؟

أتمنى أن أستطيع المساهمة في رفع المعاناة عن المرضى وأسرهم بجزء بسيط مما تعلمته وأعمل فيه، كما أتمنى أن أساهم في بناء جيل جديد من المتميزين والمتميزات في مجال الطب والعلوم.

أخيرًا، ماذا تودين أن تقولي؟

أشكركم على اللقاء، وأوجه شكري لكل شخص دعمني طوال مسيرتي.

وأقول إن الحياه أقصر مما نتخيل، فلا يجب أن نضيع منها لحظة في تحقيق أحلامنا.