«كلهم على حق».. يسوع السائر على رأسه

لطالما تصورت أن الحوار هو أصعب ما على الروائي/ القاص صنعه، فجودة الحوار وسلاسته ومنطقيته تعكس إتقان وتمكن الراوي من وجهة نظري، لكني، والحق يُقال، عدلت عن هذا الرأي إبان قراءة رواية «باولو سورينتينو» والمسماة «كلهم على حق» فهذا المونولوج الطويل الذي يعتمد عليه هنا لن يستطيع الإتيان به إلا رجل ذو رأس ممتلئ فعلًا.

ما فاجأني في هذه الرواية هو أن قناعة أو بالأحرى تعاطي «تونينو باستينتي»؛ بطل الرواية والممسك بدفة السرد على طول الرواية تقريبًا، مع كون «كلهم على حق» كان تعامل منافقين؛ فهو رجل منافق يداهن الجميع ويساير الجميع في وجهة نظره، في حين كان الرأي الذي أتبناه هو أن الجميع على حق من زاوية ما، وعليّ أن أتقبل كل رأي مخالف، كل سلوك لا يروق لي، حتى وإن كنت لا أتفهم دوافع أصحابه.

إذًا، لما وقفت على الرواية أولًا، قبل أن أشرع في قرائتها ومخر عباب مجهولها، أسقطتها في قالب ما، تلك مأساة الأحكام المسبقة دومًا، كنت أظن أن «تونينو باستينتي» يسوع العصر الحديث، لكن الأمر لم يكن كذلك! أنت هنا أمام بطل مغن مشهور، لكنه أتى إلى المجد والشهرة من عوالم جد صعبة ومؤلمة، وعاين أمورًا يشيب لهولها الوالدان، هو مدمن خمر وكل أنواع المخدرات تقريبًا، كما أنه زير نساء، كثير الأسفار والرحلات.

محاكمة الحياة روائيًا

لم أستطع، والحق يقال، على الرغم من هذه المعطيات سالفة الذكر أن أُبغض «تونينو باستينتي» بل على العكس تمامًا، وحتى لو لم أتمكن من التعاطف معه – هو أصلًا ليس بحاجة لأحد كي يتعاطف معه هو سيد المجموعة ومغنٍ طبّقت شهرته الآفاق _ فقد أعجبتني تأملاته، وحواره مع نفسه، والإتيان بزاوية نظر مخصوصة في كل شيء تقريبًا. اسمع إليه مثلًا وهو يقول ساخرًا: «حين تكون في حاجة إلى عون أخيك الإنسان، تجده دائمًا في نوم عميق؛ ولهذا السبب التافه يقضي المؤرقون حياتهم دون أن ينعموا بالسلام».

أو هو يتحدث عن الإغواء، وهو طبعًا رجل مجرب بأحوال النساء عليم: «التصنع هو محرك الإغواء».

وانظر، بحقك، إلى هذه المماهاة بين التعب والحرية: «يا رفاق، إن التعب أفضل طريق للحرية، المرء يقضي حياته وهو يظن أن الإرادة والتطبيق والعزيمة تقرّبه من الحرية، كلا؛ التعب وحده هو ما يحملك إلى تلك الغرفة الشهيرة بلا جدران، الحرية. المتعب من كل شيء بوسعه أن يقول لا، لن آتي، لن أشارك، لا ولا ولا؛ الحرية هي أن تقول دومًا لا».

إذا أردت رجلًا يحدثك عن ما يجب وما ينبغي وهو ينظّر من برج عاجي فلن يكون «تونينو باستينتي»، ولكنه ارتاد دروب الحياة جميعًا: التشرد والانحلال، الشهرة والوصول إلى قمة المجد، الحب والسيطرة على قلوب نساء كثيرات.. إلخ، ثم راح يتأمل الحياة ظهرًا لبطن، ويقول لك، في خاتمة المطاف، عصارة تجاربه.

أليس هو القائل: «آخر ما توصلت إليه أفكاري أن الحياة تدمير خيالي للأعصاب»؟!

يسوع السائر على رأسه

الحق أن عليّ الاعتراف أن هذه الرواية قد أثّرت فيّ كثيرًا؛ ليس لأني اقتفيت أثر «تونينو باستينتي»، وإنما لأني بالضبط سرتُ في الطريق المغايرة؛ كان هو يسخر من الناس ودائمًا ينافقهم؛ كيما يبقيهم على مسافة منه، ظننته يسوعًا في البداية، لكني اكتشفت، بعدما أنهيت قراءة الرواية وأمعنت في تأملها، أنه يسيّر يسوع على رأسه بدلًا من قدميه.

كان المسيح شفوقًا متعاطفًا مع الخلق أجمعين، ولهذا كان يمكنه أن يقول إن «الجميع على حق» طالما أننا استوعبنا وجهات نظرهم وطريقة عيشهم، ودوافع أفعالهم.

وعلى أي حال، فالرواية حرية بالقراءة وبدقيق التأمل والنظر؛ فقل أن تجد أحدًا يجرّد الحياة ويضع كل شيء فيها تحت شمس الفكر وعلى جمر التأمل كما فعل «تونينو باستينتي».

اقرأ أيضًا: فيلم قوارير يشارك في مهرجان مالمو للسينما العربية ضمن برنامج ليال عربية