صبحة بغورة تكتب: موقع المعلم في المنظومة التربوية والمجتمع

من المعروف أن العناصر الرئيسة للعملية التعليمية، تتلخص فيما يعرف "بالميمات الثلاثة"، وهما: "المعلم، المتعلم، والمنهج"، وفي المدارس القرآنية قديما اقتصر دور المعلم على التلقين والتحفيظ وتقديم بعض معاني الكلمات والمراد منها.

وفي التعليم العام التقليدي، احتفظ المعلم بنفس الدور في التلقين والتحفيظ إلى جانب تقديم شروح مبسطة لبعض المواضيع وتفسيرات سطحية للمفاهيم المقررة، لذلك اكتفي بضرورة أن تتضمن إجابات التلميذ على الأسئلة التي لقنه له "حرفيا".

وبالتحول إلى مرحلة التعليم الأساسي، جرت صياغة المنهج على أساس ترك المتعلم يصل بنفسه للمعلومة عن طريق المشاهدة والملاحظة والاستنتاج والحكم، إلى جانب تنشيط المهارات العقلية الأخرى مثل المقارنة والتحليل والإدراك.

واعتمد نجاح هذه التجربة بشكل أساسي على وسائل وأدوات الإيضاح التي بدونها سيجد المعلم نفسه يطبق برنامج تم وضعه مسبقًا على أساس ما يتطلبه التعلم ولكن بطريقة التعليم، وعلى قدر بساطة أدوات ووسائل الإيضاح الضرورية والمطلوبة للتعلم، فقد تم تسجيل عجز كبير في توفيرها لملايين المتعلمين؛ حيث لا يمكن أن يشترك إثنان في العمل بالوسيلة الواحدة، كما لا يمكن استرجاع الكتب والأدوات الإيضاحية لإعادة استعمالها في العام التالي، فكانت التكاليف الباهظة في قطاع التربية حجر عثرة أمام الكثير من الحكومات للاستمرار بنفس وتيرة العمل، فسارت العملية التعليمية على أساس منهج التعلم، ولكن بمنطق التعليم أي التلقين وبدون تقديم الشرح الوافي لعدم كفاية وسائل الإيضاح الضرورية.

مع تطور تكنولوجيا وسائل الاتصال والتواصل ونقل المعلومات عبر الإنترنت وشبكة التواصل الاجتماعي، انتشرت فكرة الاستفادة والإفادة عبر المواقع واشتدت الحاجة لها في ظل تفشي فيروس كورونا وفرض إجراءات الحجر الصحي؛ حيث اضطربت المنظومة التربوية وأوقات الدراسة ومواعيد الامتحانات ومعها انتشرت القنوات التعليمية الفضائية التي قدمت دروسا بأساليب متطورة على أساتذة متخصصين أفادت كثيرًا خاصة بعد توقف الدراسة بالمدارس في رفع نسبة النجاح بالنسبة لتلاميذ الشهادات الإعدادية والثانوية العامة.

أيضًا، شجع هذا السلطات في التفكير الجدي نحو تطبيق أنماط دراسية جديدة، ومنها التعليم الرقمي الذي يفترض أنه مع احترام التباعد الاجتماعي أن يتقلص أعداد التلاميذ داخل الفصل وأن تتقلص أيام التردد على المدرسة ثم لا تزيد مدة الدرس عن 45 دقيقة، كل هذا الظروف أدت إلى تعاظم دور التعليم الرقمي والتلفزيوني، أما الدروس الخصوصية فلا عزاء بعد سيطرة هاجس العدوى والإصابة بالفيروس اللعين على نفوس الملايين.

لقد ظلت ظاهرة هروب التلاميذ من المدارس وخروجهم من المدرسة دون إذن مسبق وبطريقة غير شرعية مشكلة حارت في تفسيرها الأسر وإدارات المدارس وعجزوا عن معرفة سببها برغم وجودها بكثرة وتفاقمها.

وبرأي الأولياء، قد يكون المعلم سببا لذلك الهروب يمكن لأسلوبه القاسي والمنفر مع الطلاب، أو لفرض أحد المعلمين عقابا بدنيا قاسيا على من لم يكمل واجبه الوظيفي والدراسي لأسباب لم يتقبلها المعلم.

وفي بعض الأحيان، يحدث الهروب خوفًا من تهديد سابق، فيلجأ الخائف للهروب أو على الأقل من وجهة نظره الابتعاد عن جو المدرسة الذي يثير قلقه وتوتره.

وهناك من يرجع غيابه عن المدرسة لأسباب داخلية بالمنزل؛ إذ قد يدفعه وجود وسائل ترفيهية حديثة إلى انتهاز فرصة غياب إخوته للرجوع إلى المنزل بحجة عدم وجود المعلم ليلعب وحده ويرفه عن نفسه بمفرده.

ومن بين الأسباب الرئيسة لتسرب التلاميذ من المدرسة، إحساسهم بالملل أثناء الحصص الدراسية، وتفضيلهم اللعب في مقاهي الانترنت على حضور درس لأستاذ لا يرغبونه، و بذلك يمكن القول أن هروب الطالب من مدرسته ما هي إلا طريقة يلجأ إليه ليتمكن من خلالها تفريغ طاقاته، لكن للأسف في غير مكانها الصحيح؛ حيث اللهو والعبث غير المجدي.

مهارة المعلم وخبرته التربوية إلى جانب وسائل الإيضاح الحديثة، هي عوامل جذب مهمة لا غنى عنها لترغيب التلميذ بالمدرسة، والعكس صحيح، لذلك فالاهتمام برسكلة المعلم بالمزيد من العلوم والمعارف وألوان الفنون المختلفة، وتزويده بأحدث الأساليب التربوية وطرق التعليم العصرية؛ يصبح مطلبا أكثر من ضروري، لأن أثره يتجاوز شخص المعلم إلى تنشئة جيل بأكمله، وموقع المعلم في منظومة التربية يستمد أهميته من موقعه كعنصر رئيسي في العملية التعليمية وعنصر أساسي في مهمة التبليغ والاحتكاك المباشر مع التلاميذ، ولأنه هو الأكثر دراية بطبيعة شخصياتهم والقادر على تنميتها.

كما أنه المؤهل للتواصل مع أهاليهم وذويهم لتنسيق الجهود من أجل توجيههم التوجيه السليم ووضع حد لظاهرة هروب التلاميذ وتسللهم من المدارس، كل هذه الاعتبارات لا نكاد نلمس أثرها في القنوات التعليمية والتعليم الرقمي عن بعد، فالتعليم لابد له من بعد تربوي يهذبه، والتربية لابد لها من علوم وقواعد تؤسس لها وترسيخها، وموقع المعلم في المنظومة التربوية أن يحدث التنسيق والتناغم بين البعدين التربية والتعليم. وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال: قم للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا

يبقى معنى وصدى كلمات أمير الشعراء الراحل أحمد شوقي الممجدة لشخص ودور المعلم في مجتمعه محفورة في الذاكرة الجماعية للشعوب العربية وغير العربية، تشهد على صدق رسالته وسمو مقصده ونبل هدفه وخالص جهده في نشر العلم والمعرفة.

وقد استقر في عقيدة الحكومات المتعاقبة، أهمية رفع الضغوط الحياتية عن كاهل المعلم والتخفيف من الأعباء اليومية التي يتحملها ليتفرغ للعملية التعليمية التربوية المكلف بها، والتي لا يمكن أن تعوضها برامج تلفزيونية أو تعليمية متخصصة أو وسائل التعليم الرقمي والتعليم عن بعد التي بالرغم من أهميتها وحيويتها كبدائل خاصة في وقت اشتداد الأزمات، إلا أنها تبقى تفتقد التواصل الفعال والحي والمباشر الذي يوفره الحضور الشخصي للمعلم أمام تلاميذه.

وإدراكًا لقيمة المعلم، فقد أنشأت السلطات نقابات مهنية لقطاع التربية والتعليم للدفاع عن حقوق المعلمين والتكفل برفع مطالبهم المهنية والاجتماعية، ليتمكنوا من أداء رسالتهم في أحسن الظروف الممكنة بما يحقق الأهداف المنشودة في تكوين وتأهيل أجيال تقدس قيمة العلم والعلماء والمعلمين.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: الحب.. انتهـى زمنه أم تغيـر شكله؟!