د. رانيا يحيى تكتب: لطفي بوشناق.. "بافاروتي العرب"

من تونس الخضراء، يصدح هذا العملاق مغردًا كالبلبل الطليق بكل ما قدمه خلال مشواره الغنائي المشرّف، منذ أن دخل عالم الطرب في أواخر السبعينيات وتحديدًا عام 1978 وحتى الآن؛ أي حوالي ما يقارب أربعة عقود من الإبداع.

لطفي بوشناق؛ خير مثال للفنان صاحب الرسالة الهادفة، فرغم ما يتعرض له الفن بشكل عام إلا أنه لم ينجرف ولو مرة واحدة إلى التيارات المعادية للطرب الأصيل والقيم الفنية والإبداعية، بل ظل محافظًا على تقاليد الغناء العربي كقيمة جمالية وحسية بأصالته وتمسكه بقواعد الموسيقى العربية، بجانب مد جسور الحداثة بما يليق بالفن الطربي الرصين.

أصبح غنائه مزيجًا بين الأصالة والمعاصرة داخل الإطار الغنائي والطربي لموسيقانا الشرقية، متمسكًا بهويته العربية وليست التونسية فقط، فهو فنان واعٍ مثقف، دائمًا ما يسعى نحو تحقيق الحلم العربي لأمتنا، حلم الوحدة والاستقرار، حلم تحرير أراضينا المستعمرة، حلم حل القضية الفلسطينية.

وقد أُطلق عليه لقب "بافاروتي" لما يمتلكه من قوة صوت وعذوبة، مع وضوح مخارج الألفاظ واختيار الكلمات بدقة وعمق؛ ما جعل أبناء بلده يشبهونه بمغني التينور الإيطالي العالمي "لوتشانو بافاروتي" أشهر مغني أوبرا، والذى صدح بصوته عابرًا المسافات والثقافات، ورغم اختلاف نوعية الغناء ذاتها إلا أنهما يتشابهان في قوة وجمال وروعة الصوت الخلاب الذي ُينسينا مآسينا؛ لنجول معه في رحاب الفن العابر لكل الحدود، المتسق مع الزمن روحيًا وفكريًا.

وعندما تتقابل مع هذا الفنان، الذى يمتلك كثيرًا من التواضع رغم قيمته الفنية التي تجاوزت حدود الوطن العربي، تجد البُعد الإنساني النبيل والصدق والإخلاص في أقاصيصه النادرة، وحكمته واتساع ثقافته ومعارفه، كذلك صدق المعاني والألحان التي يتعامل معها هذا العملاق الموسيقي كمطرب متميز وعازف عود ماهر وملحن عميق، جميعها تؤكد عبقرية موسيقية للأسف قد لا يدركها بعض من يترأسون المؤسسات الثقافية والفنية التي لم تستفد من هذه القيمة والقامة الكبيرة التي يندر مثلها في هذا الزمان.

لقد كان وسيظل "بوشناق" معتنقًا مبادئه الإنسانية التي ترجمها في أعماله الغنائية ذات القيمة والرسالة، دون البحث عن المادة؛ فهو شغله الشاغل قيمة فنه وبقائه، مدركًا معنى الفن الحقيقي، كما أنه فنان له مواقف سياسية واضحة، وثقافته القومية شكّلت وعيه منذ بداياته إلى أن أصبح "ملك الأغنية العربية" التي توجها بموضوعاته وأفكاره المتميزة؛ لنصرة القضايا المصيرية في الوطن العربي.

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]ليني ريفنستال د. رانيا يحيى[/caption]

لقد حمل مصير الأمة على عاتقه، فكانت إبداعاته الغنائية خير معبّر عن آلام وآمال هذه الشعوب الجريحة في عدد غير قليل من الأغنيات التي تحمل الطابع القومي والعروبي، فضلًا عن طبيعة صوته المميزة بمساحتها الكبيرة التي تمتد بمنتهى السلاسة والحرفية والإتقان دون أن نشعر بأي معاناة عند هذه الانتقالات رغم صعوبتها الشديدة على مطربين آخرين، سواء الوصول لنفس المنطقة الصوتية العالية أو الانتقال اليسير بإحساس يملؤه العشق لكل ما يقدمه، وهنا تتجلى لديه المنطقة الوسطى في رقة وانسيابية كأنك تشاهد صفحة النهر العذب؛ لتصبح كل نغمة يطلقها "بوشناق" وكأنها حبة ضمن حبات المطر التي تثري هذا النهر وتزيد خيراته فتسبح في جدائل مكونة أروع الألحان التي ينتقل بها من عمل لآخر بإبداع ليس له مثيل.

إن قوة شخصية ذلك الفنان وذكاءه الشديد عكسا كمًا من الصدق نستشعره تلقائيًا مع عباراته وأدائه الدرامي المعبر، فهو حقًا يمتلك تعبيرية ودرامية تقتحم خلجات النفس وتبث داخلنا القيم الجمالية والمتعة بمجرد سماع ملك الطرب.

لم يكتف بوشناق بهذا الحد وإنما جاءت أفكاره الجديدة بالمزج ما بين شرقيته الصميمة وأصالته النبيلة وبين الموسيقى الكلاسيكية الغربية، حينما قدم تجاربه بأجمل الكلمات وأنبل التعبيرات الجمالية الرقراقة لتتماهى مع هذه الألحان، التي يصعب معها تقطيع كلمات اللغة العربية؛ كمحاولة لتحسين الذوق العام وتوجيهه بشكل غير مباشر لمعرفة الموسيقى العالمية بروافدها ومؤلفاتها المتعددة، ورغم الصعوبات، لكنه تفرد في هذا الأمر ومع أصعب الأعمال الكلاسيكية الضخمة لتستشعر الجمال المطلق في كل ما قدمه، وفي تحدٍ صنعه هذا المبدع لنفسه وبالفعل تفوق على ذاته.

[caption id="attachment_196428" align="alignnone" width="997"]رانيا يحيى تكتب: لطفي بوشناق.. لطفي بوشناق[/caption]

ومن الأعمال التي استوقفتني وأحببتها بشدة لما جاء فيها معبرًا عن شجون وهموم وطننا العربي "تحت السيطرة" بمشاركة الفنان السوري عبد الله مريش؛ في ثنائية مبهرة تجمع بين حوار الأب بوشناق والابن مريش؛ وتألق في هذه الحالة الإبداعية الرائعة التي أوقدت بداخلنا الأمل، ورغم طلاقة اللغة العربية التي أبدع فيها الدكتور مازن الشريف وصعوبة هذه الكلمات في التلحين إلا أن "لطفي بوشناق" –كملحن- أبدع في هذا اللحن السهل الممتنع الذي عبّر عن ملحن واعٍ بكيفية تحقيق البعد الجمالي بعناصره الموسيقية المختلفة.

حقًا نمتلك جرحًا لم يندمل بعد لكن يظل الغناء هو الفن الأقرب للعرب متحدثًا عن نفسه بصدق، حاملًا آمال وآلام أمة بأكملها، فيشعرنا بالسعادة الغائبة التي نفتقدها في فنون هذه الحقبة، لكن ما دام هناك مطربون على شاكلة "لطفي بوشناق" فيجب ألا نيأس؛ فالفن الحقيقي هو السلاح الأبقى.

اقرأ أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: الكينج محمد منير.. في عشق الجمال