د. رانيا يحيى تكتب: «سيد مكاوي».. مبدع بالبصيرة

أنعم الله سبحانه علينا بالحواس التي تساعدنا في عملية الإبداع، سواء كمتلقين أو فنانين، فنحن نتلقى الفنون بها أولًا قبل أن تنتقل إلى مراكز المخ كي يتعامل معها، كذلك المبدع يتعامل مع وسائطه الفنية بحواسه، فهو يميز الألوان بحاسة البصر ويتعرف على الأشياء بحاسة اللمس ويميز النغمات الموسيقية وطبيعة أصواتها اللحنية بحاسة السمع وهكذا.

وعندما يصل الإبداع إلى قمته، أتذكر رائد الثقافة المصرية الدكتور ثروت عكاشة؛ حين قال في كتابه الرائع "الزمن ونسيج النغم": "العين تسمع والأذن ترى"، وهو ما يؤكد تداخل الحواس والمدركات، وحينما يصل الإبداع الفني إلى القمة تتجلى لنا عبقرية إنسانية وفنية وهو الملحن الموسيقي الراحل سيد مكاوي.

حرمه الله نعمة البصر لكن أنعم عليه بالبصيرة، وكان نموذجًا للرضا وقبول تلك المنحة الربانية بطيب خاطر وخفة ظل، وامتعنا بألحانه التي كانت تحلق في عنان السماء، وترك بصمات لا يمكن نسيانها في عالم الموسيقى الرحب، وميراثًا موسيقيًا خالدًا يجمع بين الشرقية الصميمة النابعة من الحياة المصرية وبين موروثنا الثقافي والديني الذي شكل رافدًا رئيسيًا في إبداعه، فكان لصيقًا بالبيئة المصرية معبرًا عنها متوغلًا في بواطنها.

أبدع سيد مكاوي روائع تغزو القلب قبل العقل، وبساطة ألحانه وتركيباته الهارمونية والسياق المتضافر بين الكلمة واللحن؛ منح لهذا الميراث الفني القدرة على التوغل في الذات الإنسانية، وأعماله الكثيرة يعرفها القاصي والداني، فرغم شرقيته وأصالته إلا أن بعض إبداعاته لم يقترن بفترة زمنية بعينها أو بجيل معين، على سبيل المثال: حينما نتحدث عن أوبريت "الليلة الكبيرة" نجده يخاطب الكبار والصغار، ورغم تعاقب الأجيال وتغير عناصر التلقي في زمن التكنولوجيا والعوالم المفتوحة إلا أن ذلك الأوبريت باقٍ، بجانب رباعيات صلاح جاهين وألحانه وإبداعه في "المسحراتي"، والأغنية البديعة "الأرض بتتكلم عربي".. وغيرها الكثير مما تركه وأثر في وجداننا.

اقرأ أيضًا: إنجازات المرأة السعودية تبلغ عنان السماء.. رائدات وصلن للعالمية

ورغم أن الموسيقى عادة ما تعبر عن الأفراح والسعادة إلا أنها تختلف عن أي فن آخر لقدرتها على اختراق المشاعر والأحاسيس المختلفة وبمنتهى السرعة، وهنا أتوقف عند واحد من أجمل الأعمال التي لا ولن تنسى لارتباطها بذكرى عالقة في الأذهان؛ حيث عبّرت أغنية "الدرس انتهى لموا الكراريس" التي شدت بها الفنانة الرائعة شادية عن فيض غزير من الإحساس الصادق من كلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي، وكانت بمناسبة ذكرى قصف القوات الإسرائيلية لمدرسة "بحر البقر"، وكانت خير مترجم عن تلك الحالة السيكولوجية السيئة التي تغمر كل من لديه إحساس بالرحمة.

فتلك الذكرى الأليمة، تعبر عن مدى قسوة ووحشية العدو الصهيوني عام 1970 حين انهالت القذائف الصاروخية وقنابله المدمرة من خمس طائرات طراز "إف فور فانتوم" الأمريكية مجتاحة براءة أطفال مدرسة قرية "بحر البقر" الابتدائية بمركز الحسينية في محافظة الشرقية؛ ما أسفر عن وفاة ثلاثين طفلًا من الورود المتفتحة والأزهار اليافعة والذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والثانية عشرة، وجرحى يصل عددهم لخمسين طفلًا.

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]سيد مكاوي د. رانيا يحيى[/caption]

وقد عبرت الأغنية عن تلك الآلام، من خلال لحن سيد مكاوي الذي استخدم فيه جميع آلات الأوركسترا، وكذلك آلات النفخ النحاسية لتأكيد قوة الحدث، أما استخدام آلات النفخ الخشبية فكان لأداء بعض الألحان البوليفونية مع الوتريات وأيضًا لأداء المصاحبات مع استخدام الأجراس الأنبوبية منذ البداية لتوحي بالجرس المدرسي تباعًا.

وحول إيقاع الأغنية، فكان أولًا بداية حزينة ثم تدرج ليشتد عند النهاية ويوحي بالخلاص، ويوجه جاهين نداءه مخاطبًا العالم بهذا الجرم في حق التلاميذ الأبرياء، وعبّر اللحن عن التناقض ما بين براءة الأطفال ووحشية الهجوم، وأوحت الموسيقى بحالة من الترقب للحدث الأليم، والجمل من الوتريات ميلودية غنائية، والأجراس والمثلث عبرا عن جو الطفولة.

فيما كانت الآلات الوترية تؤدي إيقاعًا متكررًا، ومع استمرار هذه التوزيعات الآلية نجد الزغردة من الوتريات تبعث حالة من الحيرة والتوتر في تصاعد مع قوة الصوت، وتدخل أصوات الأطفال بكلمات تعبيرية، بينما يدخل الصوت الملائكي الرنان للفنانة شادية بحنو وعطف أم وبصوت خافت يتصاعد وفقًا لتفاعلها مع كلمات جاهين المعبرة ببراعة عن الحدث، والكلارينيت يظهر بصوته الغامض في أداء الردود الموسيقية على الغناء أحيانًا، وبالاشتراك مع باقي آلات النفخ الخشبية في أحيانٍ أخرى ونستمع للبيكولو بصوته الحاد في التوزيعات البراقة، واستخدام آلات النفخ النحاسية أعطى قوة للتعبير عن مواجهة المصريين وتصديهم للقتلة.

سيد مكاوي

أما السرعة في آخر الأغنية، فجاءت للدلالة على رفض العدوان والحماس لأخذ الثأر وسحق العدو، وقد كانت صيحات شادية قبل نهاية الأغنية معبرة عن رفضها معلنة كلمة "لا"، وتُختتم الأغنية بمشاركة الأطفال الثائرين.

الأغنية فيها مسحة حزن مُزجت بالقوة لتوصيل هذه المناشدة بصوت شادية لإيقاظ ضمير العالم للحفاظ على أرواح الأطفال الأبرياء من هذه الجرائم الوحشية.. ولا يمكن أن يصل هذا الإبداع إلى الجماهير بمنتهى الصدق لولا اكتمال عناصر الأغنية من الكلمات الراقية واللحن الرائع المتميز.

دكتورة رانيا يحيى رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون عضو المجلس القومي للمرأة بمصر

اقرأ أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: «صوت الجبل» وديع الصافي.. حين يصبح الغناء معبرًا عن آلام شعب وآماله