دكتورة رانيا يحيى تكتب: «عروس البحر».. متعة بصرية

"سيرينا" عروس البحر التي تحدثت عنها الأساطير القديمة، واحدة من أقدم الحكايات وأكثرها تشويقًا وإثارة ليس فقط للأطفال وصغار السن وإنما قصصها ثرية للأكثر نضجًا؛ لما تحققه من أمنيات خيالية للشخص، فهي تُعد أحد الموروثات الثقافية لدى شعوب عديدة وانتشرت حكاياتها فى الأدب العربي وحتى الغربي وتم تناولها فى روايات وأساطير "ألف ليلة وليلة"، ومن كثرة الاهتمام بفكرتها اعتقد البعض بوجودها.

عروس البحر تجمع بين صفات البشر والأسماك؛ حيث نصفها العلوي على هيئة نصف إنسان، وتحديدًا امرأة جميلة، ونصف سمكة؛ إذ يمتلك نصفها العلوي مقومات الإنسان الكاملة، بينما يتكون نصفها السفلي من ذيل سمكة غاية فى الروعة والجمال ومغطى بالحراشف ولها زعانف تساعدها في السباحة والغوص، كما أنها قادرة على العيش والتنفس تحت الماء بكل سهولة.

ومن أسباب شهرة عروس البحر، ظهورها في كثير من الأفلام السينمائية وأفلام الكرتون التي تنتجها أشهر شركات الإنتاج السينمائي؛ ما أكسبها شهرة وارتباطًا وجدانيًا بثقافات مختلفة وأنماط متباينة.

ويرجع البعض فكرة عروس البحر للحضارة الإغريقية القديمة، والتي تناولت فكرتها لأول مرة ككائن مساعد للآلهة، ولم يقتصر ذكرها على الحضارة الإغريقية وإنما الحضارة الفرعونية كذلك وغيرها من الأمم؛ حيث تركوا خلفهم كثيرًا من الآثار التي توضح اعتقادهم بوجود عروس البحر، فتم اكتشاف رسومات فرعونية وكذلك بعض المنحوتات المصنوعة من البرونز في بلاد الشام والعراق، ويعود التاريخ التقريبي لهذا التواجد إلى قرابة الثلاثة آلاف عام.

العمل الإبداعى "سيرينا"، تصميم وإخراج الشابة المبدعة الواعدة سالي أحمد؛ والتي قدمت رؤية فلسفية مغايرة للنمط السائد الذي أشرنا إليه لأسطورة عروس البحر، وجاءت فكرتها بتعمق فلسفي حول الحب، وأيضًا ترجمة لجدلية الحياة والموت، مستنكرة التساوي ما بين الحب الباعث على الحياة والموت الذي ينهيها.

وطرحت "سالي" رغبة البطلة وتمنيها أن تكون فتاة حقيقية من جنس البشر وتخوض تجربة جديدة تشعر خلالها بمشاعر عاطفية تستشعرها لأول مرة، فتدري أنه الحب الذي يخترق الوجدان فيندفع إليه الشخص بكل حواسه وأحاسيسه تواقًا لاكتشاف المزيد منها، رغم عدم اكتمال الحب في كل هذه التجارب، فمنها المكتمل ومنها ما ينتهي في وسط الطريق لأسباب مختلفة.

وترى المخرجة، أن النسبة الأكبر هي عدم اكتمال هذا الحب البدائي إن جاز التعبير؛ حيث اعتبرته بداية استهلالية لوجود مشاعر للجنس الآخر وليس اكتمالًا للحب؛ إذ يتولد هذا الحب الفطري مع بداية سن الشباب أو في مرحلة المراهقة، وفي هذه المرحلة العمرية يطرأ على الإنسان الكثير من الأفكار الجامحة والمتضاربة، والتي يتصور خلالها نهاية حياته مع نهاية قصة الحب.

وتؤكد الرؤية الفلسفية لسالي أحمد، ضرورة اختيار الحياة بما لديها من مقومات عديدة تستحق أن نحيا من أجلها وألا نتوقف عند قصة حب زائلة.

يحتوي العرض على مجموعة من المشاهد والرقصات التي تروي القصة ببراعة أداء أبطالها، وشكلت العناصر المكونة للعمل رؤية جمالية للمتلقي؛ ليستمتع بعمل فني متكامل؛ حيث خرج الديكور بشكل بسيط ومعبر مع إضاءة تخدم مشاهد العرض لعمرو عبد الله، فيما جاءت الملابس رائعة بتصميمات متنوعة وبشكل مبهر وألوان زاهية مبهجة، خاصة في مشاهد الحب والعشق بين الأبطال، كذلك ملابس مجموعة "الجيلي فيش" كانت متميزة.

عروس البحر

أما موسيقى العرض، فاستوقفتني لما تنطوي عليه من جماليات من خلال الجمل التعبيرية التي تتماشى مع حركة الراقصين، وكذلك الاستخدامات الآلية للفيولينة والتشيللو بجانب الأوركسترا، والتنوع في استخدام الجيتار والتيمباني والاكسليفون والماريمبا، وهو ما يؤكد البراعة في توظيف الآلات الإيقاعية ذات البريق الرنّان والقوة وضبط الإيقاع في أحيانٍ أخرى والكورال أكسب الألحان تمايزًا.

وجاءت الآهات من مجموعة الكورال؛ لتدعم الأثر الدرامي والسيكولوجي، وتناول المؤلف للطبقة الحادة من آلة الفيولينة مع مرافقة الكورال، ثم ينتقل بنا للجيتار مع صوت غنائي نسائي سوبرانو بأداء أوبرالي استطاع أن يمزجه داخل بوتقة العمل في تكاملية، ونستمع لجملة لحنية من الفيولينة وتنتقل بالتبادل مع السوبرانو بنفس اللحن والتشيللو بصوته العميق يؤدي مصاحبة هارمونية.

ورقصة البمبوطية الفلكلورية المعبرة عن مدن القناة بثقافتها وموروثها، كانت متناسقة تمامًا مع موضوع العرض وسيطرة عروس البحر على المشاهد؛ فجاءت مكملة للسياق والفكرة العامة، ورافقهم آداء موال غنائي ذكوري ثم أغنية "شط إسكندرية" بجمالها.

ومع ظهور البطل والبطلة على المسرح، ترافقهما ثنائية معبرة من الفيولينة والتشيللو، ظهرت في شكل حوار موازٍ يترجم مشاعر البطلين؛ حيث الفيولينة تجسد البطلة بصوتها الحاد الرقيق، والتشيللو بصوته الرخيم العميق ليجسد شخصية البطل، ويستشعر المتلقي بتناسق في هذا المشهد، خاصة مع دخول بعض النغمات المتفرقة وكأنها صوت البحر.

واُختتمت هذه الثنائية، بعبارة لحنية قصيرة تتكرر عدة مرات ليصفق الجمهور؛ لما تمتعت به هذه الثنائية من تعبيرية ودرامية بجانب الحالة الرومانسية للحب المتبادل، ويليه مشهد للبطلين وكأنهما في أعماق البحر بمرافقة الأوركسترا والكورال بأداء درامي والتيمباني يُعمّق الإحساس، ودخول الآلات النحاسية مع الأوركسترا والفيولينة تتجلى مع جليساندوهات من الهارب وكروماتيك متصاعد والكورال يرافقه الأوركسترا.

وتتزايد قوة الصوت مع مؤثر صوتي لهدير البحر، أيضًا جملة تحمل سمة شرقية في طياتها مع العود والناي وأصوات الكورال ونغمات متقطعة في الخلفية بإيقاع مستمر من الآلات الوترية ذات الغلظة، وأداء الكورل يدعم الحالة النفسية، وبعض الألحان يتسم بالرشاقة والحيوية، وبعضها يوحي بحالة القلق والترقب، وتلعب الإيقاعات دورًا كبيرًا في الأثر الدرامي، لنستمع إلى التشيللو بدرامية وشجن والتيمة اللحنية كأنها رثاء وتتكرر الموتيفة مرات عديدة ليُختتم العرض.

عرض يمتزج بالأفكار والألحان المتماهية، برؤية شبابية وطاقة إيجابية يغلب عليها الحيوية والانطلاق، وفي ذات الوقت الدرامية وعمق الأحداث. وتظل عروس البحر نموذجًا ممتعًا للحب والجمال.

دكتورة رانيا يحيى رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون عضو المجلس القومي للمرأة بمصر

اقرأ أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: «سيد مكاوي».. مبدع بالبصيرة