دكتورة رانيا يحيى تكتب: رائدة موسيقى الأفلام في الشرق

للنساء المصريات دور مهم في الحياة الفنية والثقافية خلال القرن العشرين، وكان هذا الدور مواكبًا لحركات التحرر والريادة لها، وهناك العديد من الأسماء اللامعة التي تصدرت المشهد الثقافي في أوجه عدة، وكان لهن السبق في خوض مجالات كثيرة.

موسيقى الأفلام

ورغم أن التطورات التكنولوجية في الثلث الأخير من القرن الماضي ساعدت في الانفتاح على العالم الآخر وفتحت آفاقًا جديدة للشباب مع تيسير الحصول على المعلومات بطرق مختلفة، لم يتح ذلك لرواد الحركة الفنية والثقافية كغيرهم من أصحاب المجالات الأخرى، وبالتالي كانت جهودهم تستحق كل التقدير، بالإضافة إلى أن تلك الجهود كانت البداية الحقيقية للأجيال التالية التي سارت على هذا النهج.

وشهد مجال موسيقى الأفلام نموًا مع انطلاق الصوت في السينما وأصبح كثير من المؤلفين الموسيقيين يتبارون في وضع موسيقى مميزة للأفلام، ورغم ظهور مجموعة كبيرة من المؤلفين الموسيقيين لهذا النوع من الموسيقى (المصاحبة للأفلام) إلا أن هناك سيدة أضاءت هذا المضمار وكان لها دور ريادي في مجال لم يسبقها فيه سوى قليلين في بعض الدول الأجنبية، ولكن لدرايتها الفنية والثقافية الواسعة اقتحمت هذا العالم ووضعت بصمتها ليذكرها التاريخ كامرأة رائدة في الفن المصري.

لذا؛ فسوف نسرد بعض المحطات المهمة لإحدى السيدات اللواتي كن سببًا في إنصاف المرأة المصرية ووضعها في المكانة التي تستحقها، وذلك رغم مضي أكثر من ثلاثة عقود على رحيلها. إنها الفنانة الشاملة بهيجة حافظ؛ والتي تُعد من أهم رائدات الفن السابع منذ نشأته؛ حيث كان لمواهبها المتعددة أثر إيجابي في المجال السينمائي بمصر؛ لما قدمت من مبادرات في مرحلة مبكرة من حياتها.

وُلدت بهيجة حافظ يوم 4 أغسطس عام 1908 بالإسكندرية، وكان والدها حافظ باشا لديه ثقافة موسيقية لا بأس بها وكان يعزف على آلات العود والرق والقانون والبيانو، وكانت والدتها عازفة فيولينة وتشيللو؛ ما كان له أثر في حبها للموسيقى؛ حيث عزفت على البيانو وهي في الرابعة من عمرها وألفت أول مقطوعة موسيقية في التاسعة، وأبدى والدها إعجابه بهذه المقطوعة ووضع لها عنوانًا باسمها "بهيجة"، بعدها قدمت مقطوعتين هما "من وحي الشرق"، "معلشي"، وبالإضافة لذلك كانت عازفة ماهرة لآلتي البيانو والفيولينة، كما كان لوجود المايسترو الإيطالي جيوفاني بورجيزي بالإسكندرية أثر كبير فيها؛ إذ تلقت قواعد الموسيقى الغربية على يديه، ثم أنتجت مؤلفاتها الموسيقية، مثل أنشودة إيطالية ورقصات التانجو والفالس، والتي سجلت بعضها مع شركتي "كولومبيا" في الإسكندرية و"أوديون" بالقاهرة، كما ظهرت أول اسطوانة في السوق المصري لمؤلفاتها باسمها عام 1926، وهي أيضًا أول مصرية عضوة في جمعية المؤلفين بباريس، وحصلت على حق الأداء العلني لمؤلفاتها الموسيقية.

وحالف الحظ هذه السيدة الرائدة حين اختارها المخرج محمد كريم لتكون بطلة الفيلم الصامت "زينب"، عام 1930، وكان لدراستها المتخصصة للإخراج والمونتاج في برلين دور بارز فيما قدمته من أفلام؛ إذ شاركت في وضع والقواعد الرئيسية لهذا الفن الجديد، وبذلت الفنانة مجهودًا كبيرًا لوضع المرأة المصرية المهمشة على قدم المساواة مع الرجال الذين وضعوا أسس المجال السينمائي وجسدوا كثيرًا من الأدوار على الشاشة.

وكانت بهيجة حافظ رمزًا لمعاني الحب والأمل والعطاء التي جسدتها من خلال حبها وعشقها لفن السينما؛ حيث عانت كثيرًا من أجل تحقيق أهدافها وأحلامها لغرس الفنون الرفيعة في المجتمع، وقامت بعدة أدوار؛ منها ريادتها في إنشاء أول نقابة للمهن الموسيقية عام 1937 وهو ما لا يعرفه الكثيرون، كما جعلت من منزلها صالونًا ثقافيًا يضم أهل الفن والفكر والإبداع.

وأعتقد أن مكانتها الريادية الحقيقية استطاعت اكتسابها من خلال الجانب الأهم وهو الممارسة العملية في مجال موسيقى الأفلام، فهي حالة فنية نادرة في زمن لم تكن فيه السيدة المصرية قد طرقت هذا المجال الجديد، خاصة أن مجال الفن السابع كان آنذاك حديثًا ودخول الصوت للسينما سبق تجربتها بسنوات قليلة؛ لذا استطاعت "بهيجة" أن تضع المرأة المصرية والعربية في موقع الريادة؛ لما قدمته تلك الفنانة الشاملة ذات المواهب المتعددة وصاحبة الفكر الإبداعي المتطور خلال هذه الفترة لموسيقى الأفلام.

موسيقى الأفلام

ولم يعد ارتباطها بالسينما يقتصر على مجرد التمثيل والإخراج والإنتاج ولكن باعتبارها امرأة رائدة وضعت أول موسيقى فيلمية في السينما العربية وأول سيدة تقتحم ميدان التأليف الموسيقى الكلاسيكي بشكل أكاديمي، وتكون لها فيه ريادة سابقة على ريادتها في الفن السابع؛ حيث كان لدراستها الموسيقية في باريس تأثير في أسلوب التأليف الموسيقى لديها، كما أرى أن إجادتها لبعض اللغات الأجنبية كانت وراء تطلعها للبحث عن كل ما هو جديد والعمل على تطويعه أو محاكاته في مصر.

وربما كان هناك ثمة ارتباط بين أول موسيقى فيلمية تُكتب خصيصًا لفيلم مصري من تأليفها وبين أول موسيقى تُكتب خصيصًا للفيلم الأجنبي "اغتيال دوق جيز" عام 1907، والتي قام بتأليفها الموسيقي الفرنسي كامي سان سانس؛ أحد أعلام الموسيقى الكلاسيكية، ومن المؤكد أنها تناولت مؤلفاته بالبحث والتحليل أثناء دراستها. وينبغي أن نذكر أنه رغم وجود بهيجة حافظ قائدة مجال التأليف الموسيقي النسائي منذ ثلاثينات القرن الماضي إلا أن هذا المجال ما زال مقتصرًا على عدد محدود للغاية في مصر؛ لذا فعلينا إعادة تقييمنا لمكانة هذه الفنانة الرائعة.

دكتورة رانيا يحيى رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون عضو المجلس القومي للمرأة بمصر

اقرأ أيضًا: دكتورة رانيا يحيى تكتب: دراويش المولوية!