حارس سطح العالم.. مأساة الغريب

كتب: محمد علواني

ترسم بثينة العيسى، في «حارس سطح العالم» أحدث رواياتها، طريقين واضحين للوجود في هذا العالم؛ الأول: طريق مفّعم بالسؤال، والخيال، والتأويل، والثاني هو طريق العيش على السطح؛ سطح العالم، وسطح المعنى.

رواية حارس سطح العالم

فنراها تقول على لسان أحد حراس سطح هذا العالم: «إياك والتورط في المعنى.. هل تعرف ما الذي يحل بأولئك الذين يسقطون في المعنى؟ تصيبهم لوثة أبدية ولا يعودون صالحين للعيش. أنت حارس السطح.. مستقبل البشرية يتوقف عليك».

لكن بطل هذه الرواية لا يختار البقاء على السطح، على الرغم أنه تم تعيينه أصلًا في إحدى الهيئات الرقابية في دولة خيالية غير موجودة في الواقع _ كما تشدد «بثينة» على ذلك في مطلع روايتها_ إذ للكتب مفعول كالسحر، ولها أنياب وعضات كذلك.

ولا تدخل الكتب بيت أحد أو عقله إلا أفسدته، إلا جعلته غير صالح للتوائم، والتعايش مع عصر التفاهة والانحطاط، والذي لا يُدرك معنى شيء ولا جوهره، فهو باقٍ على السطح، ولا يشغله شيء سوى الظاهر والمظاهر.

لكن الطريق الآخر_ الذي لا يختاره البطل_ هو طريق التفاهة، والذي يتم تقديمه هنا، على سبيل السخرية، كطوق نجاة؛ فـ «إذا أردت وقاية نفسك من لوثة المعنى فإياك والكتب»، هذه هي الجملة المكتوبة على بوابة عصر التفاهة.

حراس السطح أو التفاهة كطوق نجاة:

كل الذين أرهقهم السؤال، سؤال الذات كما سؤال الوجود، يطمحون إلى نوع من التفاهة ينسيهم مآسيهم الخاصة، ومآسي العالم، لكن طريق التفاهة الذي ترسمه صاحبة هذه الرواية ليس من هذا النوع؛ فهي تفاهة أشخاص لم يؤرقهم سؤال المعنى من قبل، فهم أشخاص عاديون تمامًا، غارقون في عالم الظاهر والمظاهر حد الأذنين، ومن ثم لا وقت للوجود الحق.

«أنت فارغ وبلا معنى، وهذا كله لصالحك» هكذا لا تكون التفاهة مجرد خيار وجودي من نوع ما، بل إنها تبدو، وعلى نحو يدعو للسخرية، طوق نجاة.. إنها وسيلة هروب وانسحاب من العالم، سواء حدث ذلك بشكل واعٍ أو لا واع.

أزمة هوية أو من أنا؟

حياة البطل هنا، كما هي حياة كل من شذ عن طريق التفاهة وقرر أن يحمل عبء وجوده، مأساة مكتملة الأركان، وإنما تنبع مأساته من كونه غريب وسط متواءمين متشابهين، من كونه أصلًا غير قادر على التأقلم.

لكن مأساته لا تقتصر عليه وحده، فهو، في خضم اشتغاله على ذاته وأناه، قد سمم العالم بالمعنى دون أن يدري؛ فالكتب لا تمنحه شيئًا سوى الأسئلة، وقد نثر، عن غير قصد منه، أسئلته على الجميع.

«لقد أصابته لوثة المعنى، على ما يبدو، وما عاد قادرًا على العيش. تُرى إلى أي حد سيختلف الأمر لو أنه لم يقرأ؟».

هكذا إذًا تنصب عداوة بين التفاهة وبين الكتب، فطالما أن أحدًا لا يريد أن يعرف نفسه، ولا أن يدرك ماهية هذا العالم فسيكون كل سؤال يوجه إليه بمثابة خنجر في القلب.

تعقّب الخيال:

بالنسبة لعصر التفاهة، لا تكون الكتب وحدها هي الأعداء بل والخيال كذلك؛ فالمنحطون، الغارقون في وحل العدم والسفاهة يعادون الكتب – الجادة منها والتي تقول شيئًا جديدًا بالتحديد_ ومَلَكَة الخيال؛ فكلاهما يعريان سوءات هذا العالم الذاهب إلى حتفه على جسر التفاهة والعدم.

كان بطل الرواية يتمتع بقدرة كبيرة على الخيال، فقد كان قارئًا نهمًا على أي حال، وقد ورثت ابنته الوحيدة هذه الملكة منه، فها هي تقول: «في غرفتي دولاب، في الدولاب ذئب، في بطن الذئب جدة، في بطن الجدة حكايات كثيرة».

وسيكون مصير هذه الطفلة هو الزج بها في إحدى المصحات العقلية، ومنذ تلك اللحظة التي يسلمها فيها والداها إلى المختصين في هذه المصحة لن يتمكن من إخراجها ثانية.

وهكذا يتبين أن الخيال، في عصر السفه العام، هو أصل الشقاء الإنساني، وهو سبب أساسي في مأساة كل من يعاني منها أحد الغرباء الفاهمين.

ولكي تتم مأساة هذا الغريب _ بطل هذه الرواية_ تضطره الظروف إلى إقامة محرقة لهذه الكتب التي كانت سبب شقائه وعذابه، ولأنه محكوم عليه بالمأساة لم يصب بالجنون فحسب، بل إنه ألقى بجسده في أتون هذه النار المستعرة بأوراق الكتب.

وبهذا تختتم الرواية، وكأن الرسالة الضمنية من هذا المشهد، هي أن الكتب مأساة العالم وخلاصه في الوقت ذاته.

اقرأ أيضًا: عن علاقة الإنسان بذاته.. صدور رواية «ذات ليلة» لسامية حاتم