بعد أن تحول لمرض.. أعراض الاحتراق النفسي وطرق تجنبه

في كتابه "الموت من أجل الراتب"، كشف جيفري بفيفر، أستاذ السلوك التنظيمي بجامعة ستانفورد، عن أن ساعات العمل الطويلة تؤدي إلى الإجهاد المزمن والإرهاق؛ ما يدفع العاملين إلى الانتحار أحيانًا.

ولطالما كان المرض النفسي محورًا بحثيًا متطورًا باستمرار مع ضغوط الحياة المتزايدة، لكن الإرهاق بالتحديد أصبح محط أنظار الباحثين النفسيين الذين يعتقدون أنه عامل مؤثر قوي في الأمراض النفسية؛ ليكتشفوا في النهاية أنه تحول إلى مرض في حد ذاته.

وأظهرت العديد من الأبحاث والدراسات السريرية أن الإرهاق له عواقب جسدية ونفسية وعملية خطيرة، من انخفاض أداء العمل والإنتاجية والتوازن بين العمل والحياة، إلى زيادة الاكتئاب المزمن والتعب الطويل وأمراض القلب والأوعية الدموية، بل بالنسبة للبعض يعد الإرهاق أيضًا مقدمة للوفاة المبكرة بالسكتة الدماغية المفاجئة أو الانتحار.

وحتى شهرمايو الماضي، كانت منظمة الصحة العالمية حريصة على الإشارة إلى أن الإرهاق بسبب العمل ليس حالة طبية، بل هي ظاهرة مهنية ترتبط مباشرة بالعوامل في العمل؛ حيث كانت تُعرّفه بأنه "متلازمة يتم تصورها على أنها ناتجة عن الإجهاد المزمن في مكان العمل والتي لم تتم معالجتها بنجاح"، ولكن خلال شهر يونيو الجاري اعترفت منظمة الصحة العالمية به كـ"متلازمة الاحتراق النفسي".

من الإدراك إلى الاعتراف

تعرّف العالم للمرة الأولى على هذا المرض، عندما أدركه عالم النفس الألماني الأمريكي هربرت فرويدنبرغر، في مدينة نيويورك عام 1974، في عيادة للمدمنين والمشردين.

المتطوعون في العيادة كانوا يكافحون بالفعل، فعملهم كان مكثفًا، وبدأ الكثير منهم يشعرون بأنهم أقل نشاطًا وأنه تم استنزافهم، وعلى الرغم من أنهم وجدوا ذات يوم وظائفهم مجزية، إلا أنهم أصبحوا ساخطين ومكتئبين، حتى إنهم لم يعطوا مرضاهم الاهتمام الذي يستحقونه، وعرّف "فرويدنبرغر"؛ هذا الأمر بأنه حالة من الإرهاق الناجم عن إرهاق العمل لفترة طويلة، واستعار مصطلح "الإرهاق" لوصفه.

أما في يومنا هذا، وبعد أن تحول إلى ظاهرة عصرية خطيرة تهدد المهن المختلفة، أصبح "الاحتراق النفسي" متلازمة طبية ومرضًا معترفًا به وفقًا لمنظمة الصحة العالمية؛ حيث أُعيد تصنيفه ضمن دليل الوكالة المستخدم على نطاق واسع، والمعروف باسم التصنيف الدولي للأمراض "ICD"، وتم الإعلان عن أنه سوف يتم إدراج الاحتراق رسميًا، ليس باعتباره "حالة طبية" ولكن تحويلة إلى "متلازمة مهنية".

وكشفت منظمة الصحة العالمية عن أن الإرهاق ينطوي على ثلاثة عناصر: الشعور بالإرهاق، والانفصال العقلي عن وظيفة الفرد، وضعف الأداء في العمل.

وتم تضمين الاحتراق للمرة الأولى في الطبعة العاشرة من التصنيف الدولي للأمراض، وصُنف في البداية على أنه "حالة من الإرهاق الحيوي"، ولكن بالاعتماد على مجموعة متزايدة من الأبحاث، اعترفت به المنظمة في الطبعة الحادية عشرة كمتلازمة ترجع إلى "الإجهاد المزمن في مكان العمل"، على أن يسري مفعول الإصدار الحادي عشر من التصنيف الدولي للأمراض في يناير 2022.

كيف يمكنك معرفة ما إذا كنت تقترب من "الاحتراق النفسي"؟

يقول سيوبان موراي، الطبيب النفسي ومؤلف كتاب "The Burnout Solution"، "هناك الكثير من علامات وأعراض ما قبل الإرهاق تشبه إلى حد بعيد الاكتئاب". ويقترح موراي البحث عن العادات السيئة والابتعاد عنها، ومنها زيادة استهلاك الكحول والاعتماد على السكريات طوال اليوم.

وحذر "موراي" من مشاعر الإرهاق التي لن تتلاشى قائلًا: "حتى لو كنت تنام جيدًا، بحلول الساعة العاشرة صباحًا، ستعاني من عدم وجود الطاقة اللازمة لممارسة الرياضة أو الذهاب للنزهة"، وبمجرد أن تبدأ في الشعور بهذه الطريقة، ينصح موراي بزيارة طبيب.

ويضيف موراي: "عندما نتعرض باستمرار للتوتر والقلق، يبدأ في التحول إلى الإرهاق"، وهناك أيضًا علامة كلاسيكية تدل على الاقتراب من الإرهاق، وهي الاستهتار والشعور بأن عملك ليس له قيمة تُذكر.

أما الطبيب النفسي جاكي فرانسيس ووكر؛ فيشرح علامات الاقتراب من أو الإصابة الفعلية بالاحتراق النفسي قائلاً "شخص ما على شفا الهاوية، سيبدأ على الأرجح في الشعور بالتخدير العاطفي أو البعد عقليًا"، موضحًا أن هؤلاء المصابين "ليس لديهم القدرة على الانخراط في أشياء عادية في الحياة".

وهناك علامة مهمة تشير إلى الإصابة بالإرهاق، وهي شعور الفرد الدائم بأن جودة العمل بدأت في التراجع؛ حيث يبدأ الأشخاص بقول "لكن هذا ليس أنا"، أو "يمكنني عادةً أن أفعل x وy وz".

والخطوة الأكثر علمية هي الانتقال إلى اختبار قياس الإرهاق "MBI"Maslach Burnout Inventory، والأكثر استخدامًا على نطاق واسع هو استبيانMBI-General الذي يقيس أشياء، مثل الإرهاق والاستهتار.

وفي الواقع، لا يزال قياس هذه الحالة المرضية محور نقاش، وعلى الرغم من اعتراف منظمة الصحة العالمية بالاحتراق النفسي كمتلازمة مرضية، إلا أن إيلين تشيونج؛ أستاذة العلوم الاجتماعية الطبية بكلية الطب بجامعة نورث ويسترن، تعتقد بأنه يجب إيجاد نقاش أكبر حول الكيفية التي يمكننا بها قياس هذه الحالة وتحديدها بدقة أكبر.

وأوضحت "تشيونج"؛ أن الوصف يحتاج إلى تضمين بعض التعليمات لإخصائيي الصحة العقلية، مثل استبعاد اضطرابات المزاج والقلق والاضطرابات الأخرى المرتبطة بالتوتر أثناء تشخيص المريض.

لماذا يطرق "الاحتراق النفسي" أبواب عقولنا؟

وفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة جالوب عام 2018 على 7500 عامل أمريكي؛ فإن الإرهاق ينبع من المعاملة غير العادلة في العمل، وعبء العمل الذي لا يمكن التحكم فيه، وعدم الوضوح حول ما ينبغي أن يشتمل عليه دور الشخص، وبسبب قلة الدعم من المدراء وضغوط الوقت غير المعقولة، أو أن قيم الشركة تتعارض بشكل خطير مع قيم الشخص الخاصة؛ ما يخلق شعورًا بالتوتر وعدم التناسق، لأنهم يفعلون شيئًا لا يؤمنون به.

وفي تجربة "موراي"؛ فإن الدافع الرئيسي لوباء الإرهاق هو ثقافة اليوم المتمثلة في الرغبة في كل شيء، وغالبًا ما يكون من غير الممكن التمتع بحياة اجتماعية صحية وتنفيذ مشروع كبير وتلبية جميع أهداف اللياقة الشخصية الخاصة بك في نفس الوقت.

"الاحتراق النفسي" يهدد الجميع

وجدت دراسة استقصائية أجريت في المملكة المتحدة أن ما يقرب من 30% من مدراء الموارد البشرية يعتقدون أن الإرهاق يسيطر بشكل واسع على مؤسساتهم؛ بينما أعلن تقرير صادر عن جامعة هارفارد أن إرهاق الأطباء في الولايات المتحدة يمثل أزمة صحية عامة، ومن الممكن أن يكلف الاقتصاد 4.6 مليار دولار سنويًا.

كذلك أظهرت بعض الأبحاث أن الإرهاق العاطفي العميق والسلبية الناجمة عن الإرهاق، يمكن أن يغيرا دماغ العامل؛ ما يجعل من الصعب عليهم التعامل مع التوتر في المستقبل، حتى إن دراسات التصوير العصبي وجدت أوجه تشابه بين أدمغة الذين يعانون من صدمة الحياة المبكرة وأولئك الذين يتعاملون مع الإرهاق السريري في مرحلة البلوغ.

أما من الناحية الجسدية، فقد وجدت دراسة كبيرة أجريت على ما يقرب من 9000 شخص بالغ، أن الاحتراق في مكان العمل كان عامل خطر مهمًا للتعرض لمرض القلب التاجي.

ووجدت دراسات أخرى أنماطًا مماثلة لارتفاع نسبة الكوليسترول في الدم، ومرض السكري من النوع 2، والاستشفاء بسبب اضطرابات القلب والأوعية الدموية، وآلام العضلات والعظام، والتعب الطويل، والصداع، ومشاكل الجهاز الهضمي، ومشاكل الجهاز التنفسي، والإصابات الشديدة، وحتى الوفيات قبل سن 45.

كيف تبني بينك وبين "الاحتراق النفسي" حصونًا قوية؟

ابدأ بجسدك؛ لأن النوم والتمارين الرياضية والتغذية السليمة يمكن أن تصنع العجائب لمستويات مزاجك والإجهاد، لأنه يمكن أن يؤدي الإرهاق إلى تبديل العادات الجيدة بالعادات السيئة؛ ما يخلق حلقة مفرغة يدور فيها الشخص؛ لذا تنصح عالمة النفس إيلين هندريكسن، مؤلفة كتاب "كيف تكون نفسك": "أوقف ناقدك الداخلي وارتفع فوق القلق الاجتماعي"، بالحرص على "تقييم مقدار النوم الذي تحصل عليه، أو مقدار الوقت الذي تستهلكه أمام الشاشات؛ لمحاولة التغلب على أي عادات سيئة تسللت بسبب شعورك بالركود"، مضيفة: "قد يكون من المغري التخفيف من عدم الرضا عن العمل مع الكثير من ساعات السعادة الحميمة واستراحات الحلوى في منتصف النهار، ولكن الفوائد الجسدية للأكل والنوم جيدًا، تفوق الاندفاع المؤقت الذي ستحصل عليه من إصلاحات قصيرة الأجل".

وتكشف هندريكسن؛ عن ضرورة محاولة تقليل الوقت الذي تقضيه أمام الشاشات بمجرد خروجك من العمل، خاصةً إذا كان لديك وظيفة تتطلب بالفعل الكثير من الوقت أمام الشاشة؛ حيث يمكن أن يزيد الضوء الأزرق المنبعث من هاتفك وجهاز الكمبيوتر الخاص بك مع إيقاعات الساعة البيولوجية؛ ما يجعل من الصعب عليك النوم فتشعر بأنك متخبط قليلاً.

من الضروري جدًا أن تفتش عن مدى تأثير عاداتك بمكان عملك في سعادتك بالنظر إلى شخصيتك وتحديد ماذا يتطلب عملك وكم أنت مسيطر، وهل تواجه صعوبة في تفويض الأمور والحصول عليها؟ هل أنت مهووس لأنك تميل إلى أن تكون مثاليًا، وإذا كنت تميل إلى المماطلة، على سبيل المثال فإن القتال في مواعيد تسليم المهام النهائية للدقيقة الأخيرة قد يكون السبب الأساسي لإرهاقك، وعليك تغيير هذه العادات إما بمفردك أو بمساعدة طبيب.