«هدنة بينيدتي».. الذين يفشلون في الحب لا ينتحرون!

بدأتُ رواية _ «الهدنة» لـ «ماريو بينيدتي» _ وأنا أرقص من الفرح، ألفيت كتابة رائعة، ومضمونًا إنسانيًا حتى النخاع، لكنني أدركت أن السيد سانتومي، بطل هذه المأساة، رجل حزين، الرجل الحزين له أنف كلب، يستطيع أن يشم رائحه أخيه ولو على بُعد قارة، كما أن الحزن ذاته أخلص من كلب، يعرف أصحابه، ولا يبغي عنهم حولًا، وكل سعادة في حياة أولئك القوم هي أمر عابر، غريب، لا يفهمونه.

رواية هدنة بينيدتي

أعرف رجلًا حزينًا، حزينًا جدًا، كان يبكي في أشد اللحظات حميمية وفرحًا وسعادة، لا تظن أنها دموع الفرح؛ فقد كان يبكي من داخله، ينزف روحه على هيئة دموع.

«إنني سعيد ولكنني حذر جدًا إلى حد لا يمكن معه الشعور بالسعادة الكاملة».

المهم أني أدركت بفطنة حزين _ والحزين فطن _ ومنذ البداية أن سانتومي هذا رجل حزين، وكنت مستعدًا لمأساة، لكن الأمر الغريب عليّ وعلى السيد سانتومي نفسه، أن امرأة شابة، فتية _ كان هو رجل أرمل _ بدأت تظهر في يومياته، وشيئًا فشيئًا راح يتحول إلى شخص سعيد، سعيد جدًا، سعيد من كل قلبه، وأمسى غريبًا عليّ وعلى نفسه.

كنت مستعدًا، وأنا ألاحظ سعادته، أن أراهن أنه سيدفع ثمن هذه السعادة؛ فأولًا الحزن يعرف أصحابه، وثانيًا: السعادة غدّارة. وقد قال السيد «سلافان» في رائعة «جورج ديهاميل» «اعترافات منتصف الليل»: «لا ينبغي للمرء أن يُسر؛ فزوال السرور عذاب شديد».

هدنة بينيدتي

وهذا هو «ريكاردو موراليس» في رائعة «إدواردو ساشيري» «سؤال عينيها» يفقد امرأته المحبوبة، التي صنعت لوجوده معنى، حتى إن السيد «تشابرو» قد قال: «لأنه كان يشعر أن الحياة مع ليليانا كانت سعادة مفرطة، لا تشبه ما عاشه بقية حياته في أي شيء. وبما أن الكون يميل للتوازن، إن عاجلًا أو آجلًا، لا بد له أن يفقدها؛ لكي تعود الأمور إلى نصابها الصحيح، كل ذكرى من ذكرياته معها كانت مصحوبة بذاك الشعور بالغرق الوشيك، بكارثة تدق الأبواب».

هؤلاء الرجال حزينون جدًا، حزينون بالفطرة، حزينون بالولادة؛ لذلك لا يحق لهم أن يفرحوا، ليس منطقيًا أن يفلحوا في حبهم، فلا شيء يداوي جرح الوجود سوى الحب، وهم مجروحون وجوديًا ووجدانيًا أيضًا، فلابد أن تحدث كارثة.

كما أن أشد الرجال صدقًا في حبهم هم أكثر الناس فشلًا فيه؛ الحب (الحقيقي) شيء سماوي، لا ينتمي إلى الأرض؛ لذلك لا تثق بقصص الحب التي تراها ناجحة، فإما هو ليس حبًا أصلًا، أو أن كارثة مدوية ستحدث عما قليل.

ماتت «أبييانيدا» عندما كتب سانتومي في دفتر يومياته: 17 أيلول سبتمبر: «لم تحضر أبييانيدا إلى المكتب».

انقبض قلبي، فعلى الرغم من أني كنت أعرف أن كارثة ما ستقع، إلا أني، ومع ذلك، حزنت على هذا الرجل الذي سُلب منه أربع أخماس كيانه بموت هذه الفتاة الفاتنة. انقبض قلبي وقلت ها هي الكارثة وشيكة الوقوع أمست واقعًا.

لم أكن أدعي على سانتومي حين قلت إنه رجل حزين، هو نفسه يدرك ذلك، لقد قال عن نفسه، بعدما استفاق من كأس السعادة التي ما كان يحق له أبدًا أن يتذوقها: «مما لا شك فيه أن الرب قد خصني بمصير قاتم».

فمنذ أن كتب سانتومي في يومياته: «ماتت أبييانيدا» أحسست بالغصة تملأ حلقي، وشعرت برغبة تتملكني لكي أنهي ما بقي من صفحات في هذه الرواية؛ فالمأساة شديدة، أتدري ما معنى أن تأتي إلى شخص حزين كليًا وتمنحه «هدنة» سعادة ثم تسلبها منه مرة واحدة وإلى الأبد؟ إنك تقتله يا سيدي!

ورغم مأساة سانتومي إلا أني لم أكن أتوقع انتحاره، وهو لم ينتحر بالفعل؛ الذين يفشلون في الحب لا ينتحرون، يُكملون طريقهم، يذهبون إلى العمل، يحدّثون الناس، إنهم يتحملون مأساتهم بجسارة وعزم، ويستأثرون بألم الحب اللذيذ لأنفسهم، يعلمون أن هذا هو قدرهم، أن شيئًا في داخلهم انكسر وأمسى غير قابل للجبر، وهم يخلصون لهذا القدر/ الشعور (ذاك هو استعذاب الألم)، لكنهم لا ينتحرون، إنهم يريدون أن تكون حياتهم برمتها بُكائية على أطلال حب ولى، الحياة من أجل الحب أشرف من الانتحار بسببه.

اقرأ أيضًا.. ماراثون الأفكار الثقافية في المملكة والدعم اللامحدود للمجال