أجدني أنحت الكلمات نحتا عساني أتمكن من تشكيل عبارات لموضوع أصبح مجرد تناوله أمرا صعبا بل شديد الحساسية ، إذ ما هممت بالحديث عنه في جمع من الأصدقاء حتى مط أحدهم شفتيه امتعاضا ، وآخر رفع حاجب السخرية الأيمن ، بينما نـأى ثالث بجنبه متجاهلا ما سمع، فيما أسند رابع رأسه إلى كفه رافعا عينيه إلى سقف الغرفة يحاول تحديد نقطة في الفضاء ..، شعرت بالإحراج فانكمشت في نفسي ، ولكن صبري الطويل و لساني الأطول أعطياني قدرة متجددة على الفضفضة و دفعاني إلى مواصلة الحديث بحشرجة اعترت صوتي تحاول استجماع شجاعة إثارة الحوار و فرض موضوع الحديث الذي أردته فرضا على أمل الوصول إلى منتهاه وبالنتيجة التي رسمتها له .
يا سادتي ، إن الموضوع أسهل من تصريف فعل الأمر أو إعراب الأفعال الخمسة بالرغم من أنه شاغل الأمم وحديث الساعة في مختلف المجتمعات ، واعتقادي أنه من لا يتفاعل مع قضايا عصره بالتفكير والتأمل لا خير يرجى منه في المستقبل ، فحصاد اليوم هو غرس الماضي ، وجني المستقبل على قدر عمل اليوم .. ولا أخفي عليكم أن شعورا بالرضا بدا يتسلل إلى نفسي وشجعني صمتهم على الاستمرار، فتساءلت هل حقا كان بناة الأهرام في مصر أو السور العظيم في الصين أو ما تركه القدماء في مختلف بلاد العالم من آثار أو قل” معجزات ” يقصدون حقا أن تكون يوما ما مزارا للسياح و إن يدخل المقابل المالي لمجرد رؤيتها في خزائن الدول؟ يبدو أن التساؤل على بساطته قد أثار اهتمام من حولي آذ لاحظت تحرك مقلات الأعين نحوي ولكن بدون إن تستدير الرؤوس ، لا بـــأس ، فصمتهم لا يعني المعارضة على أقل تقدير وهذا عامل مشجع على الاستمرار، حرصت على إعطاء إجابات مقنعة و توضيحات وافية و تفسيرات منطقية تعطي لتساؤلي الوجاهة و تزيل عنه السطحية إذ على قدر الإجابة سيتحدد مصير الموضوع الذي طرحته وكذا نتيجته و الأكثر من ذلك مصير الجلسة برمتها إما باستمرار انعقادها أو تفرقها مع سماع عبارات التأفف ، استرجعت المزيد من شجاعتي الأدبية ثم استرسلت قائلة : إذا ألقينا نظرة على الآثار التي نستدل منها على تاريخ حضارة الإنسان منذ أقدم العصور نجدها في المباني والصور و التماثيل وكلها تؤكد لنا على نوعية عقائده و تفكيره وفلسفاته و حضارته في زمانه ، كما تكشف لنا دراسة تاريخ الفنون عن نوعية الحضارات التي عاشها الإنسان عبر تاريخه الطويل و الظروف التي أحاطت به و دعته إلى ما تركه من أعمال لها من أشكالها دلالات ثابتة تنم عن وجوده و نشاطه و ثقافاته ، وتؤكد الطاقات الابتكارية و الإبداعية الكامنة في الآثار مدى صدق الإنسان الفنان في اتخاذ قضايا مجتمعه و مناخ بيئته مصدرا لإلهامه ، لأن التعبير الملتزم المتحرر من قيود الإلزام هو قاعدة الابتكار و الإبداع في كل الفنون و مجالات الثقافة و العلوم مهما اختلفت وسائلها في التعبير، إذ مهما تنوعت الأساليب الفنية فالإجماع هو أن التزام الفنان ببيئته و حتمية تمسكه بتقاليد مجتمعه و محاولته إيجاد صلات تربطه بحاضره من خلال ماضيه العريق سيجعله مهتما بتنمية الشعور الجماهيري بمظاهر الحياة وما درجوا عليه من عادات و تقاليد بأساليب واعية و صريحة و صادقة حتى تصبح فعاليتها ايجابية .. صمت عن الحديث كمن أفاق إلى نفسه إذ يبدو أني أطلت الحديث بأسلوب شفاهي عالي المستوى ولكن صمت الأصدقاء و عيونهم المحدقة في جعلني أعتقد أنه من باب حسن الاستماع الذي يشجع على الحديث أكثر ، ودفعني هذا الاعتقاد إلى أن أميل ميلة واحدة نحو النقد ، شواهد كثيرة تؤكد عبث بعض المثقفين و الفنانين العرب باسم المعاصرة و إيثارهم التقليد على التقاليد ، التقليد الذي يعني النقل الحرفي تفاهات أجنبية دخيلة على أذواقنا وعلى مزاجنا ، لا يكفي أن تتضمن الأعمال الأجنبية قيم جمالية أو فنية لتكون رسالة فنان يشعر بواقعه و قوميته ، فمن الضروري مخاطبة الناس بلغتهم التي يفهمونها حتى لا ينعزل المثقف أو الفنان عن مجتمعه ، هناك دلائل كثيرة تدعو إلى أن يفكر كل فنان و مثقف فيما يستطيع تقديمه من أعمال مبتكرة بدون التخلي عما ينشده من قيم يتميز فيها بشخصيته.. القضية باختصار تتعلق بالأصالة و الحداثة ، وكيف يمكن استيعاب الجديد من المفاهيم بدون التفريط في الموروث التاريخي و القيم الحضارية التي تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل و حافظت عليها فحفظت لنفسها شخصيتها المتميزة ونالت بذلك الاحترام و التقدير لحقب طويلة من كل الأمم .. استشعرت انتباها لافتا و تركيزا لم أكن أتوقعه من قبل الجميع فدفعني إلى أن أستطرد حديثي إلى ما هو أعمق بتناول ظاهرة العولمة، هنا وضع أحد الأصدقاء فنجان القهوة بعدما كاد أن يرتشفه ، فيما اتخذ آخر لنفسه مقعدا قريبا بعد أن ظل يراقب الحديث عن بعد .. نعم إنها العولمة التي بقدر ما لها من فوائد فلها أيضا أضرار بليغة ، فالتفتح على ثقافات الشعوب لا يعني بالضرورة الذوبان في خصوصيتها ، إن الدعوة إلى العالمية في الثقافات و الفنون لا تتعدى في معناها أحد الشيئين : إما أن تكون العالمية بمعناها الشامل و حدة الفكر الإنساني وهو أمر ما زال من الأمور التي تبدو كالسراب لأن مثل هذه الوحدة الشاملة تتعارض مع قوانين الطبيعة والبيئات و المجتمعات بأنواعها و أجناسها المختلفة ، وإما أن تكون هذه الدعوة إلى العالمية في الثقافة و الفنون صادرة عن رغبة في تحطيم القوميات و إفساد و ضياع القيم الإنسانية التي توارثتها الشعوب في البقاع التي يعيشون فيها بتقاليدهم و بما تعارفوا عليه من عادات … ولا أظن أن أحد يستطيع أن يتصور مثلا وجود نخلة تأتي ثمارها بين الثلوج ، إن العبرة الحقيقية التي تكفل للثقافة مدلول العالمية هي صدق التعبير و صدق الإلهام و الأحاسيس الصادرة عن النفس الإنسانية المرتبطة بحياة المجتمع ، فالفن المصري الفرعوني و الفن الإغريقي و الصيني و الهندي .. هي فنون صادقة التعبير عن أيديولوجية تلك الشعوب ولم يخطر على بال مبدعيها أن تكون في يوم من الأيام وسيلة اتصال بعقلية شعوب أخرى ، ومع ذلك فإننا بعد آلاف السنين عندما نراها تنفجر فينا ينابيع التأمل و الإعجاب و الإكبار ..
اعتدل أحد الأصدقاء في جلسته وقال بكل هدوء وثقة كمن يقرر حكما : يا سادة لم يترك الأولون شيئا للآخرين ، لقد كانوا سباقين على فهم طبيعة الأمور حق فهمها ، فقديما قيل ” من فات قديمه تـــاه ” ، وهنا آثرت الصمت ولعنت شـر الفضفضة .. و الثرثرة .