د. رانيا يحيى تكتب: ماريا كالاس.. أسطورة الأوبرا

نشأ فن الأوبرا في أواخر القرن السادس عشر بإيطاليا؛ نتيجة تطور صيغة "الأوراتوريو" التي ظهرت في أوائل القرن نفسه، كما تسبب ظهور جماعة "الكاميراتا" في أواخر عصر النهضة عام 1590، والتي ضمت العديد من النبلاء والشعراء والموسيقيين والأدباء كرد فعل لسيطرة البوليفونية، في ضياع معاني كلمات الشعر لخضوعها لقواعد الموسيقى الصارمة؛ لذا بحثوا عن وسيلة جديدة لم يتطرق إليها أحد من قبل، فوجدوا الحل في أداء أسلوب المسرح اليوناني القديم؛ حيث يُؤدى الغناء بوضوح تام مع مصاحبة "الليرا" أو المزمار المزدوج، فكتبوا أعمالًا درامية تعتمد على الإلقاء المنغم وتبتعد عن البوليفونية.

ماريا كالاس

بعد ذلك، بدأ الدمج ما بين الأغنيات والإلقاء المنغم إلى أن تمخض ميلاد أول أوبرا وهي "دافني" للمؤلف الموسيقي "بيري" تحديدًا في عام 1597، ومن بعده أدخل مونتفردي كثيرًا من التعديلات على هذه الصيغة وجعل للموسيقى دورًا أكبر، وزاد من عدد الآلات المشاركة في الأوركسترا، فأصبحت الأوبرا منذ ذلك الحين من أهم المؤلفات الموسيقية التي تتكامل فيها الفنون السمعية والمرئية، وانتشرت بشكل كبير في إيطاليا وخارجها، وتم إنشاء كثير من المسارح ودور العرض التي تتواءم مع قيمة هذه الأعمال فنيًا ومع الأعداد الكبيرة المشاركة في مثل هذه العروض.

وكلمة "أوبرا" لاتينية، تعني عملًا أو مصنفًا، ولكن الشائع عمليًا أن هذا القالب عبارة عن "مؤلف مسرحي درامي غنائي متكامل يعتمد بشكل أساسي على الموسيقى والغناء"، كما يشمل باقي الفنون الأخرى؛ مثل الشعر والباليه والفنون التشكيلية والتمثيل الصامت.

وظهر إبداع المرأة من خلال هذا الفن الراقي قديمًا، بمشاركاتها المتعددة في الأدوار المختلفة وأيضًا بجمال صوتها المعبر، فإبداع المرأة بشكل عام هو أحد التجليات الجمالية للحياة الرحبة، هذه الحياة التي تسجل فيها حضورها اللافت باستمرار، وجميع المجالات الإبداعية التي تطرقت إليها المرأة قديمًا وحديثًا، يمكن الوقوف عندها بتمحيص وتأنٍ لمعرفة دقائقها وتفاصيلها.

[caption id="attachment_112974" align="alignnone" width="740"]الأفلام الناطقة د. رانيا يحي[/caption]

وحينما نتحدث عن أحد أروع وأشهر الأصوات الغنائية التي أمتعت محبي هذا الفن، فإننا نقصد الأسطورة "ماريا كالاس" ذات الصوت الساحر الذي أذهل الجماهير في القرن العشرين؛ السوبرانو الشهيرة المولودة في اليونان عام 1923، ورغم وفاتها منذ 35 عامًا، إلا أنها ما زالت تتربع على عرش الغناء الأوبرالي.

ظهرت موهبة "ماريا كالاس" في الرابعة من عمرها، عندما أبدت إعجابها بآلة البيانو والموسيقى، فبدأت تعلم البيانو في السابعة، ثم بدأت مرحلة الغناء في العاشرة، وكانت تشعر بتجاوب الجماهير وحبهم لها حينما تغني، وكانت حينما تظهر على المسرح يطغى حضورها على المشاركين، وسط حفاوة من الجمهور، الذي يصبح في حالة شغف.

اقرأ أيضًا: دكتورة رانيا يحيى تكتب: دور الإعلام المهني في بناء الأوطان

اشتهرت "ماريا" بأدوار البطولة في كثير من الأوبرات؛ أهمها: "توسكا" و"مدام بترفلاي" لبوتشيني و"عايدة" و"ماكبث"، و"لاترافياتا" و"الحفل التنكري" لفيردي، ورائعة المؤلف الفرنسي جورج بيزيه "كارمن"، وروائع فاجنر الألمانية "تريستان وإيزولده"، و"دي فالكوره" و"بارسيفال" وغيرها، كما أبدعت في دور "نورما" لبليني، وحققت نجاحًا هائلًا، خاصة أغنية "كاسيا ديفيا" التي تعني (القديسة) باليونانية؛ ذلك الاسم الذي أطلقه عليها محبوها وظل معها إلى نهاية المطاف.

 ماريا كالاس

وكان أداؤها أمام الجمهور يتميز بالبساطة والتلقائية والتمكن مع سهولة الانتقال بين النغمات، وكذلك ما تتمتع به من تعبيرية مفرطة وإحساس شديد بكل كلمة تعبر عنها بكل جوارحها، وقدرتها على تجسيد أدوارها الدرامية بتقنية عالية وحضور عميق، مع الخبرة في إظهار الانفعالات والعواطف بجميع الأدوار، بالإضافة إلى قدرتها على تقمص الشخصيات الدرامية والتوحد معها، كما أضافت لكل شخصية بعدًا جديدًا ومتميزًا عجز غيرها عن تقديمه؛ ما ساهم في زيادة رصيدها عند الجمهور وجعلها فنانة القرن.

وبالإضافة إلى موهبتها وعبقريتها الغنائية، كانت "ماريا" تتمتع بكاريزما جعلت منها شخصية فنية ساحرة بصوتها الذي يهرع له المحبون؛ كونها تتمتع بجمال من نوع خاص: جمال الصوت، والقدرة التعبيرية، والاحترافية الفائقة في توظيف صوتها، الذي حباها الله به؛ كأفضل صوت أوبرالي في التاريخ تقريبًا.

وتُعد ماريا مغنية الأوبرا الوحيدة التي أدت أكثر من 50 دورًا مختلفًا، بينما المعروف في مجال تنوع الأدوار، أنه لم تتعد أي مغنية 20 دورًا كحد أقصى؛ ما يؤكد أنها حالة غنائية فريدة في عالم الغناء الأوبرالي؛ إذ ما زال نجمها يتلألأ في سماء الفن، رغم مرور كل هذه السنوات على رحيلها.

والمدهش أن ماريا كالاس لم تكن بارعة الجمال، لكنها كانت مثل الشاعرة والمغنية اليونانية "سافو"، التي خلبت بصوتها وشعرها كل رجال اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، وتمنى الكثيرون الاقتران بها؛ لما أضفته موهبتها عليها من جمال خاص.. إنها دائمًا المرأة المبدعة رمز الجمال.

دكتورة رانيا يحيى عضو المجلس القومي للمرأة رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون

اقرأ أيضًا: مشاعل العيدان تكتب: نمط حياة معاصر مع كورونا