أجمع علماء النفس التربوي على أن السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل تمثل مرحلة حيوية في بناء شخصيته، حيث يتعلم خلالها العديد من الأنماط السلوكية، والقيم الأخلاقية، والآداب الاجتماعية، ويكتسب من خلالها الكثير من الخبرات. غير أن هذه المرحلة، رغم غناها بالنمو والتعلم، لا تخلو من التحديات النفسية، إذ يمر الطفل خلالها باضطرابات نفسية متفاوتة الشدة من طفل لآخر، بسبب شدة حساسيته في هذه السن المبكرة.
ويعد أسلوب تعامل الوالدين في هذه الفترة من العوامل الحاسمة في تكوين شخصية الطفل، حيث يسهم بشكل مباشر في ترسيخ القيم والعادات في ذهنه ونفسه وروحه. ولدى الأبوين القدرة على صقل شخصيته وتهذيب سلوكياته من خلال تعامل تربوي واعٍ ومتين.
ورغم حرص الوالدين على تربية طفلهما تربية خالية من الشوائب السلوكية، فإن هذه المرحلة العمرية قد تشهد سلوكيات تتطلب فهماً عميقًا واستعدادًا نفسيًا لتقبلها والتعامل معها. ومن بين هذه السلوكيات ما يُعرف برغبة الطفل الجامحة في تأكيد ذاته، وهي رغبة طبيعية وصحية تعكس تمتعه بنمو نفسي سليم. غير أن التعامل الخاطئ مع هذه الرغبة – كمنع الطفل من اللعب أو التدخل المستمر في تصرفاته بحجة حمايته – قد يؤدي إلى نتائج عكسية تؤثر في استقراره النفسي.
وهنا يتعين على الوالدين التوازن بين ضبط سلوك الطفل وتوفير مساحة كافية له للتعبير عن نفسه. فالإفراط في السيطرة أو محاولة كبحه باستمرار يتعارض مع عملية غرس القيم مثل احترام الكبار، والهدوء، وآداب الطعام، واللباقة في الحديث.
شعور الطفل بالتمييز أو الإهمال
وفي حال تطورت رغبة الطفل في تأكيد ذاته إلى عناد مستمر، فقد تكون هناك مشكلات أعمق، مثل شعور الطفل بالتمييز أو الإهمال، نتيجة تفضيل أحد إخوته عليه. وهذا التفضيل يولد بداخله شعورًا بالحاجة إلى جذب الانتباه، وقد يتحول هذا الشعور إلى عناد دائم. لذلك، من الضروري أن يدرك الوالدان أن العناد في مرحلة معينة من الطفولة ليس انحرافًا سلوكيًا بل هو رد فعل طبيعي لنموه، ويمكن تجاوزه بسهولة من خلال إعادة التوازن في المعاملة والحرص على العدالة في الحب والاهتمام.
أما إذا استمرت حالة العناد لفترة طويلة وبشكل مبالغ فيه، فلا ينبغي التعامل معها بالمقاومة المباشرة أو النهي المستمر. بل يجب التحلي بالصبر والهدوء، مع الحرص على احترام شخصية الطفل وعدم مقارنته بالآخرين، وتجنب تفضيل أحد عليه لأي سبب كان. كما ينبغي على الوالدين توفير بيئة أسرية دافئة ومليئة بالعطف والحنان، تعزز لدى الطفل مشاعر الثقة والطمأنينة، مما يدعم عملية تقويم سلوكه بسهولة، لا سيما حين يتلقى كلمات التشجيع على الأفعال الإيجابية، والمديح على مبادراته الطيبة.
ومن المهم أيضًا إدراك أن استمرار التصرفات الخاطئة لدى الطفل، خاصة إذا قوبلت بعدم الرضا من الأبوين، قد يدفعهما إلى الغضب كرد فعل على سلوكياته. وتزداد صعوبة الموقف في حال كان الطفل سليط اللسان، إذ يجد الوالدان صعوبة في ضبط نفسيهما أمام بذاءاته، خوفًا من أن يتطور السلوك إلى أفعال غير مقبولة.
في هذه الحالة، ينصح الوالدان بالتماسك قدر الإمكان، وضبط أعصابهما، ثم التقرب من الطفل وملاطفته، ومراجعته بهدوء حول تصرفه الخاطئ وتوجيهه نحو السلوك الإيجابي. فالغضب العنيف لا ينتج عنه إلا مزيد من التوتر والعناد.
تقليد أعمى
ولا بد من التذكير بأن ما ينطق به الطفل في عمره المبكر، خصوصًا في السنة الثانية من عمره، يكون غالبًا نتيجة التقليد، إذ إنه يكرر ما يسمعه من دون إدراك لمعناه. وفي كثير من الأحيان يكون الأهل أنفسهم مصدر تلك الألفاظ التي يعيد ترديدها، لا سيما إذا أبدوا سعادةً عند نطق الطفل لكلماتهم، دون وعي بخطورة ما ينقله عنهم.
وبعض الأهل قد يواجهون هذه الألفاظ بسلوك عنيف، كالصراخ أو الضرب الشديد، بينما الطفل يظل متمسكًا بتلك الكلمات كنوع من إثبات الذات، مما يؤكد أن هذه الأساليب غالبًا ما تفشل في تقويم السلوك. ويكون الحل الأفضل هو الابتعاد قليلًا عن الطفل لتهدئة الأجواء، مع ضرورة احتوائه بعد ذلك، مهما بلغت شدة الغضب.
فأطفال ما قبل المدرسة بحاجة ماسة إلى من يحتويهم، ويمنحهم الفرصة لاستكشاف العالم من حولهم بحرية، مع توفير الدعم والتشجيع لاكتشاف مهاراتهم وتنمية مواهبهم، في أجواء آمنة ومحفّزة تحفّز لديهم الثقة بالنفس وتدفعهم للنمو السليم نفسيًا وسلوكيًا.