«الديوان الإسبرطي».. هل يحمل التاريخ سوى المآسي؟

«لو انتصر الآخرون على الآخرين لكان لتاريخنا البشري عناوين أخرى» ربما تكون جملة محمود درويش هذه خير ما نفتتح به رواية «الديوان الإسبرطي» للجزائري عبد الوهاب عيساوي التي حصلت، مؤخرًا على جائزة البوكر العربية؛ إذ بدت الرواية وكأنها حرب بين جملة رواة؛ حيث تدور الأحداث ما بين الفترة الزمنية 1815 إلى 1833، وتتحدث عن الفترة العثمانية التي سبقت احتلال فرنسا لمدينة المحروسة –الجزائر-.

قرر «عيساوي» وفقًا لاعتبارات تخص المضمون بطبيعة الحال، أن يمنح سيف السرد لكل واحد من الشخصيات التي دارت عليها هذه الرواية، فكل شخص يحكي لنا الحكاية من زاويته الخاصة، ويسرد علينا الأحداث التي تخصه وحده، وأحيانًا يغرس سيف سرده في الأحداث العامة ولكن كما رآها هو وكما أثرت فيه هذه الأحداث.

السرد حرب وسلاح ثمة ملمح حربي ملحمي في رواية الديوان الإسبرطي، ليس من جهة كونها رواية تاريخية تحكي لنا مرحلة من تاريخ الجزائر ومعاناتها من الطغيان التركي والعدوان الفرنسي، ليس هذا وحده هو سبب طابعها الملحمي، وإنما اللعبة السردية بدت ملحمة هي الأخرى؛ فالتنازع بين شخصياتها ليس تنازعًا على التبرير فحسب، وإنما كل واحد من هذه الشخصيات ينازع الآخرين ليثبت أن وجهة نظره في الأحداث هي الصواب.

إذًا، استحالت اللعبة السردية سلاحًا في يد أشخاص الرواية، ومن ثم لا راوي هنا ولا بطل، بل يتولى شخص ما (ديبون، كافيار، ابن ميار، السلاوي، دوجة) في فصل من فصول الرواية، ناصية السرد ويمسي البطل والمظلوم معًا، ولا غرو في هذا ولا عجب، فكلنا مظلوم وله حق من وجهة نظره، وقل أن تجد أحدًا منصفًا.

السرد حرب صحيحة لكنها، في هذه الرواية، عدالة تامة، فلكل شخص الحق في أن يسرد لنا الحكاية (حكاية الديوان أو حكايته الشخصية) من وجهة نظره هو، ربما تكون أوهام وليست وجهة نظر، لكن ومع ذلك له الحق في سردها علينا.

حكاية مدينة

"الكل كانت له محروسته عداي أنا، خلفت حراسي كلهم عند آخر حفنة رمل دثرت بها أبي"، هكذا قالت «دوجة».

هذه المدينة (المحروسة) هي قطب رحى هذه الرواية، فيها دارت الأحداث، وعليها دار النزاع ليس من أجل السيطرة، وإنما لانتزاع الاعتراف بالحق فيها، الأتراك، والفرنسيون، وأهل المحروسة أنفسهم يحاولون الأمر ذاته.

من جهته، روى لنا كل واحد منهم حكايته بشكل عام، ومع المحروسة هذه بشكل خاص، وحكايتها تُحكى من وجهة نظر كل واحد ممن امتطى صهوة السرد في كل مرحلة تاريخية تعرضت لها هذه المدنية، احتلال الفرنسيين، الأتراك.. إلخ.

لكل شخص إذًا، مع المحروسة، حكايته الخاصة، وله فيها شغله/ أمره الخاص، فـ «دوجة» تتمنى قدوم السلاوي، وابن ميار مشغول بالمساجد والأوقاف، وكافيار يريد الانتقام ممن أوثقوا قدميه الأصفاد.. وهكذا عبر هذا الفسيفساء السردي تكتمل اللوحة الخاصة بهذه الرواية.

من اللافت أيضًا أن «عيساوي» لم ينتصر لرأي في روايته «الديوان الإسبرطي»، حتى لكأني به قرر أن يقفو أثر أمبرتو إيكو، ويعتمد تقنية «التأويل المفتوح»؛ فليس على المؤلف سوى أن ينقل الحكاية وفقًا لما يراه كل أطرافها، ثم يأتي القارئ/ المتلقي في نهاية المطاف، ليعثر لنفسه على وجهة نظر، ويتبنى ما شاء من آراء.

يمكن النظر إلى الأمر، إذًا، على أنه «حرية تأويلية»؛ فكل متلقٍ حر في تأويل الحكاية من زاويته الخاص، كما فعل كل شخص من شخصيات الرواية، ومن ثم سنكون أمام عدد لانهائي من التأويلات؛ إذ ستتعدد التأويلات بتعدد المتلقين دون ضغط أو إكراه، وهذا هو ما قصدناه بالحرية التأويلية.

الجميع يجر أذيال الخيبة تنتهي رواية «الديوان الإسبرطي» نهاية مأساوية _ وهل يحمل التاريخ سوى المآسي والمهازل؟!_ ففي النهاية يُضطر «ابن ميار» للخروج من «المحروسة» منفيًا إلى اسطنبول، وهو ذاك الشخص الذي ناضل كثيرًا حتى يرد لأهل المدينة حقوقهم المسلوبة.

لكن ليس «ابن ميار» وحده الذي هُزم؛ إذ ذاق الجميع مرارة الخيبة والهزيمة، حتى «ديبون» ذاك الصحفي الفرنسي الذي رافق الحملة على المحروسة، وربما هذا هو ما حدا «دوجة» للقول: «كل هؤلاء أراهم الآن ماثلين أمامي، وأرغب في أن أسألهم واحدًا واحدًا، هل منكم من حُققت رغباته؟ هل منكم من تمنى حلمًا فأنجزه». لا يحمل التاريخ دروسًا، إذًا، ولا عظات، فقط درس واحد يمكنه أن يعلمنا إياه: إنه مهزلة، معركة لا منتصر فيها أبدًا.

اقرأ أيضًا.. «ناقة صالحة».. لقاء في عيون الإبل