د. رانيا يحيى تكتب: «يا ليلة العيد آنستينا».. الفرحة بصوت أم كلثوم

يُعد شهر رمضان شهر التعبد والتقشف وحرمان الذات من الملذات، لتنتظر الأمة الإسلامية انطلاق مدفع إفطار اليوم الأخير منه، إذ تبدأ الاحتفالات والمباهج بأيام العيد بكل أفراحه.

وتشع البهجة في النفوس فرحين بمجيء أول أيام العيد؛ حيث تبدأ مظاهر الاحتفال في الشوارع بتزيين وإنارة المساجد والمحال التجارية واستعداد الساحات والميادين لصلاة العيد، التي حرمتنا منها جائحة كورونا هذا العام، ويخرج الأطفال بكل طاقاتهم وبراءتهم فرحين بمقدم العيد يلعبون ويمرحون، ويشترون الكحك والبسكويت اللذين تمتد جذورهما التاريخية للفراعنة القدماء.

ومن ضمن مظاهر الاحتفال الموسيقى والغناء، وذلك منذ عهد رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- وللدلالة على هذا حديث السيدة عائشة -رضى الله عنها- حينما دخل أبو بكر منزلهما فوجد جاريتين تدفقان وتضربان فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله في يوم عيد، فقال رسول الله: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا».

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]رانيا يحيى د. رانيا يحيى[/caption]

ورخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم للمسلمين في هذا اليوم إظهار السرور وتأكيده، بالغناء والضرب بالدف واللعب واللهو المباح، وظلت الأمور هكذا بعد وفاة النبي، وهناك من الأحاديث ما يفيد بأن إظهار هذا السرور في الأعياد من شعائر الإسلام؛ حيث رُوي عن عِياض الأشعريّ أنه شهد عيدًا بالأنبار فقال: «ما لي أراكم لا تُقلِّسون فقد كانوا في زمان رسول الله يفعلونه؟" والتقليس: هو الضرب بالدف والغناء، وهذا يؤكد ارتباط الموسيقى والغناء بمظاهر الاحتفال بأعياد المسلمين منذ قرون طويلة مضت.

ومن مباهج الاحتفال وأشكاله والتي لا يمكن أن نتجاوزها تكبيرات العيد التي تعد بمثابة غناء جماعي لعموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فهذه التكبيرات كأنها نشيد يؤديه جموع المصلين بدون آلات موسيقية لكنها تتبع لحنًا ثابتًا وإيقاعًا موزونًا للكلمات التي توارثناها جيلًا بعد جيل، ويستخدم فيها غالبًا جنس واحد من المقام من البداية للنهاية لا يتغير.

وبجانب تكبيرات العيد التي نستمع إليها ونرددها مع كل صلاة، ظهرت في القرن العشرين أغنيات كثيرة قُدمت خصيصى للاحتفال بمناسبة العيد والتعبير عن مباهجه وسعادة المواطنين بهذه الأيام المباركة، بكل ما يملأها من فرح وتفاؤل، فنجد مثلًا أغنية "النهاردة العيد" لعبده السروجي؛ كلمات الشاعر الغنائي حسين طنطاوي؛ ألحان أحمد صدقي، وأغنية «يا جناين في العيد أزهارك» لحورية حسن كلمات حسن السوهاجي، ألحان محمد الشاطبي.

وهناك كذلك «يوم العيد ليه بهجة وفرحة» لسعاد محمد، كلمات فتحي قورة ألحان عبد الرؤوف عيسى، «أفراح العيد» لمحمد قنديل، كلمات محمد إسماعيل، ألحان مرسي الحريري، ومن الأغنيات التي تحمل بريق لهلة العيد وطلته البهية «يا جمال العيد والكل سعيد» لعائشة حسن كلمات عبد الفتاح الشرقاوي ألحان حسين جنيد؛ وهي من الأغنيات الجميلة من حيث لحنها ومضمونها.

وفى السنوات الأخيرة ظهر ألبوم "مهرجان العيد" للسعودي علي عبدالكريم، وأيضًا أغنية "العيد" لسامي يوسف، وأغنية "هابي عيد" لفرقة الاعتصام، إلا أن هذه الأغنيات لم تحظ بنفس النجاح الكاسح الذي حققته أغنية "يا ليلة العيد" وصاحبها لما يزيد على سبعة عقود؛ حيث تعد ترجمة حقيقية لمشاعر الارتباط الديني والوجداني بهذه المناسبة، وبكل ما تحمله من دفء وجمال في اللحن الذي أبدعه السنباطي في مقام البياتي بشرقيته الأصيلة وأداء التوزيعات الآلية البسيطة التي أبرزت جمال وروعة صوت سيدة الغناء العربي أم كلثوم وهي تشدو بكلمات ما زالت تناجي جوارحنا لأحمد رامي، وما زالت لها مذاق خاص وتحتل مكان الصدارة؛ حيث تقبع متربعة في قلوب المصريين العاشقين لصوت كوكب الشرق بكل ما تحمله من معانٍ رائعة تمس القلوب.

ومن جماليات هذه الأغنية «يا ليلة العيد آنستينا»، بجانب الصوت الرائع لأم كلثوم الذي يتصل بالشعب المصري والعربي اتصالًا مباشرًا من خلال عشقه لهذه القيمة الفنية ونبرة صوتها الشرقي الأصيل، نجد كلمات أحمد رامي متماشية مع الحالة النفسية والمزاجية للشعوب العربية، كذلك لحن السنباطي؛ حيث استطاع بعبقريته أن يقدم مقام البياتي بشرقيته الصميمة ووجود ثلاثة أرباع النغمة أو ما يطلق عليها مجازًا (السيكا) بين نغمات هذا المقام والمعروف عنه الشجن ولمسة الحزن، إلا أنه جعل منه أحد مظاهر ومباهج العيد بهذه الأغنية، كذلك حالة الطرب النابعة عن استخدام سرعة متمهلة طيلة الأغنية جعلت منها حالة غنائية سمعية تطرب لها الآذان بتوزيعاتها الآلية الشرقية المرتكزة على آلات التخت الشرقي ببساطتها وروحها العربية الصميمة بدون تدخلات ذات طابع غربي، سواء من الآلات أو الإيقاع أو المقام الموسيقي، وهو ما فرض عليها جمالًا نفسيًا وحسيًا لدى المتلقي، خاصة مع ارتباطها بهذه الحالة الوجدانية للعيد.

واستطاعت صفاء أبو السعود، أيضًا، أن تُدخل البهجة على نفوس الأطفال حينما تغنت بأغنية «جانا العيد» في الثمانينيات، وما زالت حتى اليوم من الأغنيات المحببة للأطفال والمعبرة عن الاحتفال بقدوم العيد، وكان الأداء الغنائي لهذه الأغنية أكثر من رائع ببساطة وتلقائية صفاء أبو السعود في سن الشباب والمرح معبرة عن حالة جمالية بهذه الفرحة، كلمات الشاعر عبد الوهاب محمد وألحان الدكتور جمال سلامة بعبقريته وفيضان ألحانه الفريدة، التي تتماشى مع كل المناسبات، وإيقاع الأغنية السريع الرشيق أضفى عليها بهجة في مقام العجم واستخدام الآلات كان أكثر تماشيًا مع العصر الحديث؛ حيث كان الكي بورد بصوته الرنان معبرًا عن حالة السعادة، والإيقاعات الشرقية الراقصة؛ ما جعلها حتى الآن تتربع على قلوب أطفال الوطن العربي.. لتمثل كل من أم كلثوم وصفاء أبو السعود، حالة المتعة والسعادة الغامرة التي نشعر بها جميعًا في أيام العيد بدونهما لا نشعر بقدوم هالة العيد وفرحته.. وكل عيد والأمة العربية بكل خير وسلام ونصر.

اقرأ أيضًا.. دكتورة رانيا يحيى تكتب: “أحلف بسماها” و”أم البطل”.. كيف ساهمت الأغنية في الصمود والنصر؟