دكتورة رانيا يحي تكتب : عمر خيرت.. ساحر الألحان وموسيقار الوجدان

فنان مبدع ومتميز، استطاع بموسيقاه الخلابة أن يخاطب الجمهور العربي بفئاته المختلفة، من المحيط إلى الخليج، فأعماله تمس المشاعر، وتُحيى الوجدان، بما فيها من عبَق وسحر الشرق، في إطار كلاسيكي غربي الطابع، جعل مؤلفاته الموسيقية حالة وجدانية بكل ما فيها من عمق وثراء، إذ تتدفق الجمل الموسيقية التعبيرية بـ"هارمونياتها" وإيقاعاتها ومقاماتها؛ لتخلق عباراتٍ وفقراتٍ موسيقية، تُترجَم إلى جمل لحنية غاية في الرقة والجمال، وكأنها شخص يخاطب داخلك بكل ما فيه من أفراح وأحزان وتناقضات وانفعالات، لكن بما لديها من ملَكات إبداعية، كأنها طاقة تتفجر بقوة؛ لتمنحك شحنات نفسية هائلة.

إنه الموسيقار المتميز "عمر خيرت"، الذى تعلَّم الفنون الرفيعة منذ صغره، والتحق بـ"الكونسيرفتوار"، ودرس البيانو وعلوم الموسيقى العالمية على أيدى خبراء أجانب، أضافوا إليه أصول الموسيقى الكلاسيكية، وقواعد التأليف، بجانب أحاسيسه الفطرية بموسيقانا الشرقية، التي تربى عليها في منزل العائلة بشارع خيرت، والتي تمثل ملتقًى ثقافيًّا لكبار الفنانين والأدباء آنذاك، ومنهم محمود درويش، ومحمد حسن، ومصطفي رضا، وطه حسين.

كما يقال إن اللقاء الأول الذي جمع سيدة الغناء العربي "أم كلثوم" بموسيقار الأجيال "محمد عبد الوهاب"، كان في منزل جَدّه "خيرت"، وكان لكل هذا أثر في إضفاء قيَم جمالية مضافة لتكوين شخصيته الفنية، بل والإنسانية أيضًا.

ارتبطت موسيقى عمر خيرت، في أذهان محبيه، بموسيقى الدراما، سواء باقتران هذه الألحان المتميزة بالدراما التليفزيونية لعدد من الأعمال المحببة للجمهور، أو من خلال اقترانها بشاشة السينما، فصنع الفنان لنفسه حالة من الإبداع والتألق، حين أفرزت هذه الأعمال أجمل وأرق الألحان، وأكثرها تعلقًا بوجدان الجمهور.

وذلك علاوة على ما أضفته الموسيقى من روعة لهذه الأعمال، جعلتها تطغى روحيًّا؛ لتكمل لوحة الإبداع المتكامل، في أبهى صورها سمعيًّا وبصريًّا.

ونلمح بعض السمات في موسيقى خيرت الساحرة، أبرزها المزج ما بين الشرقي والغربي، بأسلوب كتابة سلس، وإن كانت تحكمه التقنيات وفنيات الكتابة الكلاسيكية، فلمؤلفاته وقع نفسي مميز على السامع في أي مكان، إذ رغم تعدد أعماله الموسيقية وتنوعها، فإنها تتسم بشخصيته الفريدة.

ومن الوهلة الأولى، تستطيع أن تحدد هذا الانفراد في موسيقاه، خصوصًا في تعامله مع آلات الأوركسترا؛ مثل آلات النفخ النحاسية، وآلات الإيقاع الغربية والشرقية معًا، في جديلة متناسقة تمامًا، مع المزج بين روح موسيقانا الشرقية، والموسيقى الغربية، بالتعامل مع بعض المقامات الشرقية، وتوظيفها داخل مؤلفاته ذات الطابع الكلاسيكي؛ ما يضفي لونًا مبهجًا ومستحدثًا على موسيقانا، وبالأخص لوجود "هارمونيات" بكثرة، واستخدام التلوين الصوتي من الآلات المختلفة، ما يبرز طبيعة صوت كل آلة في منطقة محببة لديه، تمتع الجماهير، فضلًا عن آلات النفخ الخشبية التي يلقي عليها دور البطولة أحيانًا، والتي تزيد من جمال وبريق موسيقاه.

ولا يمكن أن نغفل دور آلتَي "القانون والعود" كآلتين شرقيتين لهما طبيعة صوتية ذات رنين، فتنسجم معهما العواطف وسط الجمع الهائل من باقي آلات الأوركسترا، أما آلة البيانو، بما فيها من قدرة على أداء الألحان البوليفونية المتعددة، فتسيطر على شكل موسيقاه السلسة، والموتيفات القصيرة، التي يسهل تكرارها للمتذوق العادي بأدائه التلقائي الباهر.

ولمَن لا يعرف الفنان المصري العبقري عمر خيرت، الذى نفخر به كمصريين، فهو يتميز بهدوء الطباع، والقدرة على الإنصات والاستماع، كما يتحلى بكاريزما قوية كفنان يكوّن بؤرة الاهتمام والتركيز، وتشعر كمتلقٍّ بمجرد اعتلائه خشبة المسرح، بسطوع الشمس التي لا تغرب إلا في نهاية الحفل بعد انسحابه في هدوء يتواءم مع شخصيته، وفي نفس الوقت صخب ولهفة غير طبيعية من الجمهور الذين سعدوا بموسيقاه، وتعايشوا داخلها وتطوقوا بها لعالَم آخر هائم في دنيا الخيال والحب والرومانسية، بعيدًا عن الواقع بكل ما فيه من آلام؛ ليكون حفل عمر خيرت بمنزلة الخروج من الحالة البائسة التي نعيشها في المجتمع، بكل ما فيها من مدخلات ومخرجات تثير مشاعر القلق، لتصبح هي المأوى السيكولوجي، الذى يذيب كل الطاقات المشوّشة والمهدرة؛ لتتحول إلى طاقة إيجابية في نفوس الحاضرين، بها قدرة على الإنتاج والإبداع بكل صوَره، وهذه هي الرسالة الحقيقية للفن، جوهر الحياة.

دكتورة رانيا يحيى

رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون

عضو المجلس القومي للمرأة بمصر