هند المنصور: الزاوية النسائية تُسيطر على أعمالي.. وأسعى لرفع راية الفن العربي المعاصر

شعرت وأنا أحاورها أني بحضرة فنان من نوع خاص، ومثقف من نوع فريد أو مثقف عضوي على حد تعبير "أنطونيو جرامشي"، إنها الفنانة التي هاجرت للفن ومن أجله، والتي تحمل هم نساء الشرق، غادرت وطنها وبقيت ثقافته عالقة في ذاكرتها تأبى النسيان، فانطبع ذلك كله على لوحاتها وأعمالها، إنها الفنانة التشكيلية السعودية الأمريكية هند المنصور، التي كان لنا شرف محاورتها والحديث إليها.

انغمست في عالم نساء الهفوف حتى الثمالة

حدثينا عن طفولتك في "الهفوف" وكيفية تشكّل علاقتك بالفن في هذه الفترة المبكرة؟

ولدت وعشت طفولتي الأولى في الهفوف، عشقت منظر نخلة تنتصب بكبرياء متواضع بين أترابها، وفي أواخر العصريات يبدين كأمهات في ترقب احتضان أطفالهن، في بيتنا الطيني الذي يفوح برائحة السكينة، رأيت عمتي "سارة" تُطرز "الزري"، و"هيا" البدوية تغزل صوف الغنم، وأمي ترسم الزهور في كراسة.

تَشبعتُ برائحة الِحناء عندما كان نساء البيت يَنقشن "الشلوف والمقفصة والمرتعشة" – كلها أسماء لطرز حناء تقليدية ـ ورغم أنني لعبت في السكة (الشارع الضيق) كثيرًا وارتدت مجلس الرجال أحيانًا، إلا أنني انغمست في عالم نساء الهفوف حتى الثمالة، أتذكر مقاطعًا من حواراتهن، أستطيع تحسس تضاريس وجوههن وأسمع رنين ضحكاتهن، عشت أيضًا رهبتهن وتقديسهن لعالم الذكور.

تركت الطب بعد ممارسة دامت لـ١٧عامًا، فما هي الدوافع وراء هذا القرار؟

توجهت لدراسة الطب لأثبت لنفسي وللمجتمع أن المرأة ليست ناقصة عقل!، كنت أتطلع إليه كوسيلة للاستقلالية كإنسان له كامل الحرية في اختيار طريقه في الحياة وجميع القرارات، المصيرية منها والهامشية، على طول تلك الطريق.

أنا فنانة منذ طفولتي

احكِ لنا عن هجرتك للفن والسفر إلى الولايات المتحدة لدراسة الفنون الجميلة؟

سافرت للولايات المتحدة؛ لإنهاء زمالة في أمراض القلب في "عيادة مايو"، وهناك تضافرت عدة عوامل على قراري بتحول جذري في مهنتي من الطب إلى الفن، أهمها انتفاء الأسباب التي حدت بي لامتهان الطب، حيث وجدت نفسي تتمتع بالاستقلالية التامة، وحرية التعبير، واتخاذ قراري الكامل بدون خوف.

كنت مدفوعة للرسم والتشكيل منذ أن تكونت ذاكرتي.. أنا فنانة منذ طفولتي، لم أكن أسمي نفسي كذلك لأنني كنت أعتبر الفن هواية جانبية لا يجب أن تكون سبيلي الأول في الحياة.

وكان من الطبيعي إذن أن يكون الفن هو حرفتي الأولى، فبعد أن اتخذت قراري، اتجهت لدراسة الفن بجدية، فأتممت ماجستير فنون جميلة وماجستير تاريخ الفن.

هناك تناقضات ظاهرية في فني

يشعر المتأمل لأعمالك، أنك هائمة حبًا بالتراث، رغم أن في شخصيتك بعض التمرد على القديم والموروث، ما سر هذا التناقض؟

فعلًا هناك تناقضات ظاهرية في فني، لم أكن في البداية أعي ذلك.

كنت أصنع لوحات تنتقد قهر الثقافات العربية لنسائها، إلي أن أخبرتني إحدى زائرات معارضي أنني أصور الثقافة العربية بجمال، عندها تنبهت أنني عندما كنت أنتقد وأشجب كنت أفعل ذلك من واقع الانتماء والحب والرغبة في التحسن.

أعمالي تحاول أن ترى العالم من زاوية نسائية

أعمالي تُمثل "الأماكن المغلقة التي ترمز إلى أحلام ورغبات المرأة"، هل لكِ أن تشرحي لنا ذلك؟

لا أذكر أين قلت هذا، لكن تبدو هذه الجملة كشيء قلته، فأعمالي تحاول أن ترى العالم من زاوية نسائية بدل أن ترى النساءُ العالمَ من زاوية ذكورية.

وإنسانية المرأة دائمًا مكان مغلق لا يجب أن يكون مشاعًا، بينما لا يعيب الرجل أن يصرح برغباته.

الفن وسيلة تعبير عن القيم المجتمعية

كيف ترين العلاقة بين الفن والمجتمع؟

ما أصعب هذا السؤال! لا أظن أنني مؤهلة كفايةَ لإجابته، فالعلاقة بين القيم الجمالية والقيم الأخلاقية والدينية متشابكة ويغذي بعضها بعضًا.

الفن هو وسيلة تعبير عن القيم المجتمعية ولكنه، في نفس الوقت، الصمام الذي يضمن عدم اختناق المجتمع في مثاليات مغالىً فيها.

ومهما حاولت الفنانة أن تهذبه، فالفن هو وسيلة تعبير تلقائية تستوحي مفرداتها من العقل الباطن واللاوعي الجماعي؛ لذلك فالمجتمع الصحي هو الذي لا يصادر الفن.

هناك تحول جذري في الفن التشكيلي الخليجي والعربي

كيف تنظرين إلى حركة الفن التشكيلي في السعودية حاليًا؟

يملأ قلبي الأمل أن تستمر الحركة التشكيلية الألفية في خطوها الواثق، حيث أراقب نهضتها واعتبر نفسي جزءًا منها.

وهناك تحول جذري في الفن التشكيلي الخليجي والعربي بشكل عام؛ إذ كنا أسرى طوعيين للفن الغربي، نراه قبسًا ومثلًا أعلى، أما الآن تعلمنا أن الفن الحقيقي يأتي من انغماسنا في واقعنا وتراثنا.

لا بأس من التفاعل مع الآخر، ولكن في النهاية فنوننا هي ما يعبر عن واقعنا ورؤيتنا، فالفن العربي كان ولا يزال صوتًا متميزًا، ويجب أن نفتح له الطريق ليكون فنًا عالميًا مؤثرًا، ونعطيه الحق بأن تكون له جدارة.

فني يحاول رفع راية الفن العربي المعاصر

ترسمين بالحناء، وكان مشروعك للماجستير عنها، فلماذا كان هذا الاختيار؟ ولماذا التركيز على الحناء تحديدًا؟

رسالة الماجستير في تاريخ الفن، كانت في تتبع أثر نماذج الحناء الحساوية التي كانت تستعمل في منتصف وأواخر القرن العشرين.

استطعت جمع ٨ نماذج من مخضرمات وحناّيات محليات، وكل نموذج له إسم وشكل ثابت وغير مرتجل، وبرغم أن الحناء لا زالت وسيلة للتعبير في "الهفوف"، إلا أن هذا التعبير أصبح له طابع الفردية والعالمية في نفس الوقت؛ إذ أصبحت الفنانة الحساوية تتمرد على تراث القبيلة أو العشيرة، وتتطلع إلي أشكال تعبيرية خارجية.

فـ"الحناء والسدو والقط" فنون سعودية نسائية بجدارة، لذلك فهي بالنسبة لي ترمز إلى وسائل التعبير الأنثوية المتأصلة في الجزيرة منذ القدم، واستعمالها يؤكد لي انتمائي لجداتي وأرضي.

ومن ذلك المنطلق، من تلك الهوية التاريخية؛ أعطيت نفسي الحق في بدء طريقي الفني، فني ليس نسويّا فقط، بل أيضًا ناشطَّ لرفع راية الفن العربي المعاصر.

كيف تنظرين إلى التيار النسوي التنويري في المملكة؟

أشجعهن وأتمنى لهن النجاح في مهماتهن الصعبة، ولا بد من الإصرار والاستمرارية لكي نرى تغييرًا، فأنا معجبة جدًا بهؤلاء النساء الذين استطعن أن يجدن أصواتهن ويطلقنها عالية.

ما هي توقعاتك لمستقبل الحركة التشكيلية العربية؟

أرى خطوتين للأمام وخطوة للوراء، بمعنى أن الإزدهار يأتي مترددًا.

العالم العربي يعاني من الحروب والتمزق واستبداد الحكومات، وإنتاج الفن وازدهاره يحتاج إلى مجتمعات مرتاحة ومستقرة. أتمنى أن يأتي اليوم الذي يجد الفن، في كل مكان، الخبز.