اليابان تلك الأمة التي استطاعت على مدى تاريخها أن تنال احترام الشعوب والأمم، وأن تحقق نجاحات ملفتة في الجانب التكنولوجي. مما حولها إلى علامة بارزة في عالم الصناعة والعلوم والثقافة؟ وهذا دفع البعض من المؤرخين الغربيين إلى إطلاق صفة اليابان المتحدة في إشارة إلى دور الشركة والتقانة في اليابان المعاصرة. وإلى علاقة التحالف بين الدولة والشركة.
وإذا كانت اليابان مرتبطة في الذهنية الشرق أوسطية والعالم العربي بما تقدمه من صورة مشرقة لدولة متقدمة تكنولوجيا. فإن وراء هذه السمعة العالمية ثقافة وحضارة لا تقل أهمية عن الجانب التقني. ففي اليابان حضارات قديمة ترجع إلى آلاف السنين وثقافات شعبية ما زال اليابانيون يجتهدون في الحفاظ عليها.
التكنولوجيا في خدمة التراث والثقافة
تحولت التكنولوجيا إلى عامل محوري مساعد للترويج لمختلف الثقافات وتطويرها ونذكر ضمن الممارسات الثقافية الشعبية اليابانية. التي تعد مظهرا من مظاهر صورة اليابان التقليدية، “مسرح كابوكي”.
هذا المسرح الذي ظهرت جذوره الأولى مع بداية حقبة إيدو وتطوره عبر تاريخ اليابان الحديث والمعاصر. فمن لا يحضر مسرح كابوكي في طوكيو أو أي مدينة يابانية أخرى لا يعد نفسه قد زار اليابان. لاعتبار هذا المسرح الكلاسيكي تجسيد حي لصورة اليابان التقليدية في عصر الإقطاع. ويعطي المتلقي إحساسا بالانغماس العميق في تفاصيل التاريخ. وهو العصر الذي ظهر فيه هذا النوع من المسرح وأنماط أدبية أخرى تفاعلت مع بعضها لتؤدي إلى تكامل الشخصية اليابانية المتي جمعت بين التقليد والحداثة وبين الاستمرارية والتغيير. وهاتان سمتان أساسيتان في تنامي وتطور التجربة الثقافية اليابانية.
ويمثل مسرح الكابوكي قمة التجربة المسرحية في اليابان، حيث بلغت درجة من الإتقان والتعقيد لا تقل عن مثيلاتها في أوروبا. واستمر معبرا عن الثقافة الشعبية اليابانية طيلة حقبة توكوغاوا وعهد مييجي.
ثم تطور في القرن العشرين وحتى الحرب العالمية الثانية ليعاني من التهميش والإقصاء من المحتلين الأمريكيين. لأنه مثل بالنسبة لهم خطرُا على مشروعهم في اليابان، الذي تمثل بتجريدها من ماضيها وثقافتها ومجدها .
بعد إدخال التكنولوجيا في إضفاء أجواء سحرية تنقل الجمهور إلى عصور الإقطاع والموروثات الشعبية التقليدية. إذ تفاعلت التقنيات الحديثة مع الموروث الشعبي للمساعدة في تسليط الضوء على مظاهر اليابان التقليدية في عهد إيدو.
بدايات مسرح كابوكي
يعود تاريخ مسرح الكابوكي لحوالي أربعمائة سنة. وتم تمجيده ضمن قائمة اليونسكو للتراث الإنساني الحي منذ عام ٢٠٠٥. بدأ هذا الفن بعروض راقصة، ثم واصل تطوره وسط شعبية كبيرة ومستمرة إلى أن أصبح واحدا من أشهر فنون العرض اليابانية.
في هذا الفن تتحد الألوان والموسيقى والمثل الجمالية الأسلوبية على خشبة المسرح تصنع نخبة من أرقى العروض الدرامية، وأروع أساليب التمثيل.
ظهر هذا النوع من الفن المسرحي في بداية عصر إيدو في بداية القرن السابع عشر الميلادي، وأصبحت بتطورها وتكاملها مع مرور الوقت جزءُا أساسيًا من الثقافة التقليدية اليابانية لتفاعل هذا النمط الفني مع بعض الفنون الأخرى وتطورت على نحو متزامن.
وهذا النوع من الرقص مشتق من الرقص الفلوكلوري الذي يدعى أودوري الذي تقوم بتجسيده النساء وفي سنة 1603 ظهرت أسرة توكوغاوا عندما بدأت “أوكوني إيزومو” بالغناء على ضفاف نهر كامو في مدينة كيوتو العاصمة الإمبراطورية طيلة حقبة إيدو.
وبدأ ينتشر بسرعة كبيرة في أرجاء اليابان بسبب طابعه الشعبي، ليصل إلى مدينة إيدو -طوكيو حاليا- في سنة1607. ثم بدأ العديد من الفرق بالظهور تقليدُا لهذا النمط الجديد من الرقص بين سكان المدن. كان حاكم إيدو العسكري ، يمنع النساء من الصعود على المسرح في عام 1629 وحل مكانهن صبيان أطلق عليهم اسم “واكاشو” الذين عانوا في صغر سنهم من الممارسات لأعمال مخلة بالأخلاق لاسيما مع فئة معينة من محاربي الساموراي مما يبعدهم عن أداء واجباتهم القتالية.
تعرضوا أيضُا إلى فضائح عديدة، ومنعوا من الصعود إلى خشبة المسرح في عام 1652. وأمرت حكومة الشوغون أن تطلق العروض على مسرح كيوجين وأن يتولى الرجال التمثيل وأجبرت الفرق المختصة على الإقامة في أجزاء محددة من المدينة ليخضعوا للمراقبة الدائمة.
اللمسات التقنية والتجميلية الفريدة
أصبح كابوكي نوعاً من المسرح الاحترافي المهتم بفنون الغناء والرقص وحدثت تغييرات على خشبة المسرح بابتكار ممر يستخدمه الممثلون ويراه الجمهور عندما يسير خلاله الممثلون مما أكسب حرية للممثلين بتغيير ملابسهم وأوضاعهم مع كل حركة ومشهد.
ومن الأشياء التي تسحر النظر في كابوكي: الحركات الميكانيكية مثل خشبة المسرح التي تدور والمصعد الذي يتحرك عبر باب سحري وهو مصعد يرتفع في جو مسرحي ليكشف عن مبنى في غاية الفخامة.
وتتم الإزاحة باستمرار تحت خشبة المسرح لا فوقها وتم استخدام هذا المصعد لأول مرة في القرن الثامن عشر ولكن تحريكه طبعًا في ذلك الحين كان يتم يدويًا وتتم الحركة أمام المشاهدين وتستخدم لإعداد المشهد نحو الخطوة التالية.
إن الخطوط العريضة في المكياج (كومادوري) بلونها الأحمر والأزرق لها أيضُا غرض عملي، وهو إبراز وجوه الممثلين على المسرح في زمن كانت فيه الأضواء الصناعية غير موجودة تقريبُا. وكانت خشبة المسرح أكثر ظلامُا مما يمكن أن نتصور.
ولا شك أن اليابان لیست المكان الوحيد في العالم الذي يرتدي فيه الأفراد مكياجًا غير عادي في بعض المناسبات الخاصة، لكن مكياج كومادوري يبدو وكأنه مصمم لكي يضفي على الممثل صورة من يملك قوة خارقة للطبيعة.
ما نراه في قصص مسرح كابوكي والاحتفال بالاستمرارية والثبات في الماضي هو أمر طبيعي، لاسيما في البلاد الزراعية حيث تكون أقصى أماني الناس في الحصاد الوفير سنة بعد أخرى، ومن هنا تأتي العروض السنوية والتي تعد تماما كالمهرجانات والطقوس وغيرها من المناسبات، التي تعبر في كل سنة عن أماني الناس في الصحة الجيدة ورغد العيش.
وكانت تعرض المسرحيات في المدن بانتظام وتشتمل مواضيع كابوكي على قطاع واسع من الأحداث التاريخية إلى مآسي الحب والحكايات الفكاهية وقصص الرعب.
وفي بعض المسرحيات وتأثرًا بمسرح الدمى والعرائس، يكون البطل الرئيسي حيوانُا، مثل الثعلب وصانع الفخاخ، التي يتظاهر خلالها أحد الثعالب بأنه إنسان في محاولة لإقناع صانع الفخاخ بالتوقف عن قتل الثعالب.والقصة مستمدة من مسرح كيوجين الكوميدي وهو أقدم من كابوكي.
الكابوكي والاحتلال الأمريكي
بعد مرحلة من التوقف في أوائل القرن العشرين، ولا سيما في السنوات الأولى التي تلت الاحتلال الأمريكي. نتيجة معاناة هذا النمط الدرامي من الإهمال بوصفه ممثلاً للماضي. منعت سلطات الاحتلال الأمريكي هذا النوع من الفن الياباني إلى جانب نفور الشعب منه في المرحلة التالية للهزيمة. لأنه جسد قيماً أدت إلى اتجاه اليابان نحو الحرب والاستعمار مما أدى إلى تدمير المجتمع الياباني.
إلا أنه سرعان ما عاد للظهور بعد استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اليابان. فأصبحت مسرحيات كابوكي تمثل في مسارح متعددة أنشئت خصيصًا لهذا النوع من العرض. وكانت المسرحيات طويلة تستغرق أربع إلى خمس ساعات واستعاد هيبته كأحد مقومات اليابان. معبرًا عن جهود اليابان في الحفاظ على موروثها الثقافي والحضاري.
وتنتشر مسارح كابوكي في الوقت الحاضر إلى جانب المدن الكبرى طوكيو، كيوتو وأوساكا. في المدن والأرياف الصغيرة لتذكر اليابانيين بموروثاتهم الشعبية. وحماية للأجيال المعاصرة من الإغواء بالتحديث وقيم التغريب. ويشكل علامة فارقة في تمسك اليابانيين بالمحافظة على تقاليدهم الثقافية الشعبية. فعلى مدى تجاوز الأربعة قرون، استمر هذا النوع من المسرح الشعبي. وأنماط تقليدية أخرى معبرة عن ثقافة شعبية متأصلة في الذات اليابانية.
وقد حاول اليابانيون الاستفادة من موجة التطور التي اجتاحت اليابان منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لتحديث أدوات هذا المسرح الياباني التقليدي. دون التأثير على محاوره التراثية ومكوناته الأساسية فكرست التكنولوجيا لخدمة الموروث الشعبي. مهما حققت اليابان من معجزات في المجال التقني فهم يميلون لتجسيد روح الأمة اليابانية الحية.
 
			






















