صبحة بغورة تكتب: طبيعة دور الأهل في العائلة العربية

أثرت التحولات الكبرى المتتالية منذ عصر النهضة وعصر التنوير والثورة الصناعية والتطورات التكنولوجية الهائلة، تأثيرًا عميقا في بنية المجتمعات لمعظم دول العالم، وشكلت تحديات حقيقية للعادات والتقاليد الراسخة والأعراف والاعتقادات التي سادت لآلاف السنين، وعلى رأسها دور الأهل في العائلة العربية.

طبيعي أن تتشكل مهام جديدة ومستحدثة لدور الأهل في العائلة أينما كانت في العالم، وفقًا لمستوى تطور نشاط المجتمعات ونضوج الفكر الإنساني، وبقي الأهل على مدار حركة التاريخ القلب والعقل والقوة المادية والمعنوية الضامنة للحفاظ على الروابط العائلية في كل الظروف.

وبينما تماسكت المجتمعات العربية بقيمها الإسلامية، تعرضت المجتمعات الغربية لموجات متتابعة من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الشديدة التي أحدثت أوضاعًا بدت كارثية على دور الأهل مع الأطفال.

مع تمام تأكيد رسوخ أركان الدولة الحديثة وما ارتبط بها من دساتير وقوانين، ومفاهيم سياسية كالديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان الفرد المتميزة عن حقوق الجماعة.

ثم الاتجاه نحو التوسع في النشاط الصناعي والخدمات، فكان النزوح الريفي نحو العواصم والمدن الكبرى بحثًا عن فرص العمل، وهو ما أدى إلى خلق وضع اجتماعي لم تكن العائلة العربية في الأرياف مستعدة له.

حيث صارت بين أمرين، إما أن تصبر على غياب الأب لفترة غير محددة بحثًا عن العمل بعيدًا عن أسرته، أو أن يبقى الأب يمارس نشاطه الزراعي المتواضع وسط أبنائه دون التطلع إلى محاولة ترقية حياة عائلته.

وأغرى التوسع المطرد في مظاهر الحياة المدنية الكثيرين للعمل بعيدًا عن العائلة، فكانت هذه الخطوة الأولى في إضعاف دور الأب في تربية الأطفال، ومع ذلك بقي تمكن الأم من التفرغ لتربية الأطفال مبعث نجاح وفخر عند الرجال.

وتحول دور الأب الأساسي إلى تأمين الموارد المالية، ومع انتشار التعليم في المجتمعات الجديدة زاد عدد الطلاب بالمدارس والجامعات وتقلص كثيرًا وقت العائلة المجتمعة.

أحدث هذا التحول بداية ما يعرف بالفجوة بين الأجيال، بعد اختلاف مفاهيم الحداثة والعصرنة والفكر الليبرالي عن الفكر التقليدي والمحافظ الذي لا يتقبل التغيير بسهولة، وتركت التحولات أثرا كبيرا على وضع الوالدين وعلى طبيعة دورهما.

فالتغييرات الأساسية التي طرأت بشكل متسارع على العائلة العربية، لم تدع الفرصة لمراجعة دور الأهل، فلم يعد هذا الدور محصورًا في تلك القرارات الأبوية لتنظيم أمور البيت، أو مقتصرًا على الأوامر والنواهي التي يأخذها الأهل بشأن أولادهم، بل أصبح أمر الأبناء محكومًا بتوجهات مؤسسات أخرى أوسع شيوعًا وأقوى تأثيرًا كالمدارس والجامعات والإعلام والقوانين، فضلا عن دور الحضانة التي أخذت الكثير من دور الأم.

إن نزوح العائلات العربية من قراهم وتركهم مجال نشاطهم الأساسي في الريف وتوجههم إلى المدن حيث الحياة العصرية الجديدة عليهم، قضى على الكثير من مظاهر المدنية والمعالم التاريخية والأثرية، إذ جلبت هذه العائلات معها تقاليدها وأعرافها وأنماط سلوكية متخلفة وشكلت تجمعات لقرى ظل فيها النظام الأبوي سائدًا هو نفسه في الكتلة الأساسية من المجتمعات العربية.

وعندما تعرض دور الأهل في بعض البلدان العربية للتغيير، فإنه اقتصر على بعض الشرائح الاجتماعية المثقفة والمرتبطة بعلاقات صداقة وعمل ودراسة مع مؤسسات غربية.

أما باقي الشرائح، فلم تتعرض لتغييرات جذرية أو مؤثرة في طبيعة العلاقات الأسرية ونمط معيشتها، مثلما كان الأمر بالنسبة للمجتمعات الغربية التي تأثرت فكريًا وعقائديًا بفعل التغييرات العميقة في بنيتها الاجتماعية بسبب التحولات العميقة الشاملة في الأوضاع الاقتصادية والمنظومة القانونية.

وأدى ضغط الحياة إلى مضاعفة أعباء العيش على العائلات التي اضطرت إلى دخول المرأة سوق العمل ثم النزوع المتزايد لتحقيق الذات، وعليه، تم فرض تقاسم الأب والأم بالتساوي الأدوار تجاه تربية الأطفال.

حيث بلغت نسبة الأمهات العاملات اللواتي لديهن أطفال دون سن العام الواحد 66%، وهذا يعني أن دور المرأة الرئيسي لم يعد رعاية الأطفال، بعد ظهور "الثقافة النسوية" و"حقوق المرأة".

كما أن رفض معظم العائلات فكرة أن على الأهل العيش سوية في سبيل سعادة واستقرار الأطفال إذا لم يكونوا سعداء مع بعضهم البعض، وأكدوا أن سعادتهم أهم من سعادة أطفالهم فارتفعت نسبة الطلاق حينها إلى 60%.

لا يبدو حال الواقع العربي مشابه للمجتمعات الغربية، ولكنه آخذ في الاغتراب عن القيم الأصيلة بعدما أصبح رهن تأثيرات خارجية قوية بسبب تطور تقنيات التواصل وتكنولوجيا الإعلام والاتصال، وانتشار القنوات الفضائية والانترنت والمواقع الإلكترونية بما تتضمنه بعض برامجها من مؤامرات، تستهدف تدمير الثقافة والفكر العربي والإسلامي، وفرض رغبات وسلوكيات استهلاكية بديلة عن مقومات الانتماء والهوية.

كما تعمل على الترويج لتوجيهات انضباطية بأسلوب ضمني يؤسس لأعراف مستحدثة حتى أصبح يلاحظ أنه كلما تعطل دور الأهل التربوي والإرشادي، ازداد التوتر مع مرور الوقت، وأن إسداء النصح وهو الدور الأساسي للأهل صار هو العنصر الأكثر إثارة للتوتر بين الآباء والأبناء، وعليه صار دور الأهل في هذا الوضع الجديد مأساويًا.

لقد دخلت الحضارة الإنسانية مرحلة من التغيرات الجديدة والمطردة نتيجة التطور الكبير المستمر في علوم التكنولوجيا الذكية والروبوتات التي سيكون بإمكانها أن تقوم بمعظم الوظائف، والتحولات المقبلة على العائلة العربية ودور الأهل فيها ستبقى مرتبطة بعقيدة المجتمع الذي يقدس الموهبة مهما كانت، علمية، أدبية، فنية أو رياضية.

وتعتقد أغلب تعتقد العائلات، أن مدح قدرة أطفالهم والثناء على مستوى ذكائهم والإشادة بنشاطهم ونجاحهم مهم جدًا لتشجيعهم، ويفترضون أن اكتساب ذكاء خارق أو قدرة فذة مع التمتع بالثقة في النفس هي وصفة للنجاح.

وسيكون على الأهل في ظل التحولات الجارية دور تجاوز التشديد على أهمية الموهبة والفطنة فقط كصفات فطرية وثابتة، لأنها كما يمكن أن تعرض أصحابها لاحتمالات الفوز والنجاح، فلا يستبعد أيضًا تعرضهم لاحتمالات الخيبة والفشل.

وسيصبح ضرورة توجه العائلة إلى التأكيد على "عقلية النمو والتطور" هو دورها الأهم، لأنها عملية متواصلة تقوم على الشراكة بدل الإرشاد، والنظر إلى الأخطاء من وجهة نظر إيجابية، أي باتخاذها دليلًا على العمل والجهد وعدم التردد في مواجهة التحديات.

إنها أيضًا عملية تحث على التحفيز بدل التلقين، من خلال الصبر والمثابرة والتخطيط العلمي السليم والجهد الوافر وحب التعلم لتحقيق النجاح، بدلا من الاكتفاء بتقديس الموهبة، وقد ثبت لدى عدة باحثين، أن نتيجة انتشار وتطبيق بعض هذه المفاهيم الجديدة، قد حدث تغيرًا إيجابيًا ظهر في أرقام الإحصائيات حول تحسن دور الأهل بعلاقتهم بأطفالهم.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: أنوثة حواء في عيون آدم