صبحة بغورة تكتب: إحياء التراث في شهر رمضان

تتجه معظم وسائل الإعلام في الدول العربية والإسلامية خلال شهر رمضان الكريم إلى تعظيمه و‘إحياء التراث، بتقديم البرامج التوعية الثقافية والأعمال الفنية الدينية الأصيلة التي تناسب محتواها طبيعة الشهر الفضيل، وهي تكاد لا تنفصل عن الطابع الشعبي المميز لكل بلد قولا وثقافة وسلوكا وفكرًا.

تحفل شبكة البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الفضائيات في أيام شهر رمضان المعظم بالبرامج الدينية التي تقتنص أحسن الفنون وأعذب الغناء الديني والشعبي الذي يريح النفوس ويلين القلوب فتهدأ أعصاب الصائمين، وقد لامس الفن شغاف قلوبهم بالشجن.

التراث الشعبي وليالي رمضان

ففي أيام رمضان، يضيف الفن الشعبي مزيدًا من الجمال للوجه الحضاري ويكسب التراث هالة من البهاء تنسجم مع قدسية الشهر الكريم، فمن خلال الالتزام بالطرب الأصيل والأغاني الدينية والتراثية والعربية الكلاسيكية المنوعة يزيد تألق الشبكة البرامجية.

كما أن الشهر المبارك فرصة طيبة لتقديم الأغاني التراثية بالأدوات الموسيقية القديمة والفنانين الشعبيين أنفسهم سواء من خلال إعداد مسبق لتسجيلات خاصة دينية ـ تاريخية في الاستديو، أو بتصوير الجلسات الحوارية الفنية والغنائية وبثها على المباشر.

ويرتبط الفن الشعبي بالأصالة، وللتراث الفني بعد حضاري راسخ ومستغرق في ثقافة كل شعب بمقدار ما أبصر في تاريخه من آثار مادية وغير مادية شاهدة على حجم ما أسهم به من علوم ومعارف وتجارب وخبرات من أجل تطوير الحضارة الإنسانية، فيبقى التراث هو الأصل والمعاصرة هي الواقع.

ولا شك أن السمو الروحي الذي يغشى المؤمنين الصائمين يجعلهم أكثر قابلية لتلقي رسائل البرامج الدينية بمزيد من الاهتمام، وإذ يقدم الدعاة والعلماء والباحثون الدروس الإيمانية التي ترصد ما روي عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من خلال أحاديثه النبوية وسيرته وخصاله وسننه خلال الشهر الكريم، فإنهم لا يغفلون عن مآثر السلف الصالح وكرامات الأجداد وأشهر عاداتهم وتقاليدهم في رمضان.

وإحياء أيام وليالي شهر رمضان يجري الاستعداد لها مبكرا؛ بتهيئة المساجد وتجديد أفرشتها وسجاجيدها وإعادة دهنها وتزيينها بالمزيد من الأنوار، وتزويدها بما تكرم به أهل الإحسان والهيئات المعنية بالمئات من نسخ القرآن الكريم، وعمل التوسعات الخارجية لاستقبال الأعداد الغفيرة من المصلين خاصة في صلاة التراويح، وكلها تدخل في إطار السعي المحمود في اتباع السنن النبوية وإحياء التراث الشعبي.

الدروس الشرعية

تحيي العديد من الجمعيات الخيرية وجمعيات إحياء التراث الإسلامي موسمًا رمضانيًا ثقافيًا مبكرًا بتقديم سلسلة مميزة من الدروس الشرعية اليومية والأسبوعية يقدمها نخبة الأجلاء من مشايخ الأمة متزامنة مع تنظيم دورات علمية وفكرية حول "فقه الصيام" يحاضر فيها كبار العلماء، وتستمر على مدى الشهر الكريم مع فتح الاتصال المباشر من المواطنين لتعميق أثر التفاعل الجماهيري في إبراز فضل الصيام وتبجيل أيام الشهر المبارك وتعظيم لياليه، بالإضافة إلى توزيع نشرات ومطويات تثقيفية لإحياء التراث في رمضان.

لا نقول إن الدين الإسلامي من تراثنا، بل إنه أكسب تراثنا كل معاني الجمال وفتح أوسع أبواب الرحمة، وخلال شهر رمضان تنعش المقتنيات التراثية ذاكرة الجيل الحالي بجمال وأصالة الماضي، وتتجهز المحلات لاستقبال الشهر الكريم بمختلف السلع والمقتنيات التراثية التي تقبل العائلات على اقتنائها تعبيرًا منهم عن عدم تقبلهم إهمال التقاليد التراثية.

وترى المواطنون المغتربون يحرصون على نقل ما يصنع بمهارة حرفية واتقان إلى بلاد الهجرة رغبة منهم في استذكار زينة شهر رمضان في غربتهم، مثل: "الهلال والفانوس التقليدي، وبعض أواني الفخار والزجاج والملابس التقليدية".

توسيع دائرة الثقافة الدينية

بالإضافة إلى قيام بعض الجمعيات بتوزيع نشرات ومطويات تثقيفية لإحياء التراث في رمضان وتوسيع دائرة الثقافة الدينية في أوساط أطفال المدارس وصغار الشباب المراهق حول معنى وحقيقة الصيام والتذكير بخصائصه ومضاعفة الأجر فيه، ومفهوم الاعتكاف، وفضل ليلة القدر، وأحكام زكاة الفطر، وكيفية أداء صلاة العيدين، وأذكار ما بعد الصلاة، ومتابعة قراءة القرآن والمقصود بالعمل الصالح، والتعريف بأبرز الآثار الإسلامية في المنطقة والروايات المتناقلة حولها.

[caption id="attachment_89804" align="alignnone" width="997"]صبحة بغورة تكتب: رواد العرب في الفن التشكيلي (1 ـ 2) صبحة بغورة[/caption]

ومن أفضل مظاهر التضامن الإنساني الواسع خاصة في رمضان، ما يعرف بموائد الرحمن ومطبخ الخيرات؛ إذ ينفق كل من ذي سعة من سعته ابتغاء مرضاة الله بتقديم وجبات الإفطار لإطعام الصائمين كتقليد ثابت، يجسد عمليا المعاني الرمضانية في التبرع للمحتاجين والأسر المعسرة.

لهذا، يتسم شهر رمضان المبارك بنكهة إيمانية صادقة وله قدسية كبيرة في نفوس المسلمين لهذا يحرصون على إحياء عاداتهم التراثية، وهذا التقليد يعد من التراث الحقيقي الخالص الذي يعرف على أنه مجموعة كاملة من التقاليد الأصيلة والآثار والثقافة وما ينبثق عنهم من ماديات ومفاهيم وسلوكيات وأنشطة معاصرة.

لذلك، فأهمية إحياء التراث ترجع إلى كونه عامل تعزيز الروابط ما بين عبرة الماضي ونهج الحاضر لتهيئة الدروس للمستقبل، ما يضمن استمرارية تماسك المجتمعات ويوفر لها عوامل تطورها بشكل أكثر سموًا.

المطالبة بحفظ التراث، هي دعوة لحفظ التاريخ من مؤامرات تزييف طبيعة الوقائع ومحاولات احتكار الحقيقة لتشويه الأحداث المجيدة في حياة الأمة، ثم إنها أيضًا للاستفادة من التجارب الماضية وتراكم الخبرات، ولاشك أن تراثنا الزاخر في مجال أصناف الأطعمة التي تعود إلى الزمن القديم ستجد طريقها إلى موائدنا في الإفطار.

وتتميز هذه الأصناف بالتنوع والقيمة الغذائية العالية التي تفيد الصائمين في تحمل مشقة الصيام، ولعل تناول تمرات عند الإفطار من أبرز ما حافظ عليه المسلمون تأسيا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

كما يكثر شراء مختلف المقتنيات التراثية قبيل حلول شهر رمضان للاحتفاء بلياليه، كشراء الفوانيس الملونة للأطفال يجوبون بها في الأنحاء بعد الفطور مع ترديد الأغاني التراثية المألوفة، وشراء المباخر والزيوت العطرية.

ومن أبرز ما يميز ليالي رمضان الكريم، الحفاظ على تجسيد دور شخصية المسحراتي الذي كان في الماضي يوقظ الصائمين لتحضيرهم لتناول وجبة السحور، حيث ما زال المسحراتي حتى وقتنا الحالي يجوب الشوارع والأزقة في كبريات العواصم الإسلامية ويردد نفس العبارات التي أصبحت تراثا هاما في أعماق نفوس ووجدان المسلمين.

وقد أصبحت المقتنيات التراثية، حاجات أساسية لتعميق الشعور لدى الجيل الحالي بمدى جمال وأصالة التراث بعد أن اتجه معظمهم إلى الإلكترونيات وما يطلبه عصر التحديث.

تشجع الإبداع البشري

وينظر للتراث في الحضارة كالجذور في الشجرة، كلما تعمقت في التربة غاصت في الأرض كلما تفرعت أغصانها وامتدت لأعلى وأورقت وأثمرت؛ كانت الشجرة أقوى وأثبت في مواجهة التغيرات المناخية، كذلك الحضارات تكون أقدر على تجاوز تقلبات الزمان، فتراثها الحي المادي واللامادي شاهد على الأصالة فينمي بذلك في نفوس الأفراد والجماعات الإحساس بوحدة الهوية ويعمق مشاعر الانتماء ويعزز إرادة الاستمرارية في بناء مجتمع على أسس صحيحة من المرونة والسلمية والشمولية التي تتسع للجميع وتحترم التنوع الثقافي وحرية الديانات وتشجع الإبداع البشري.

وفي مجتمعاتنا الإسلامية حاليا، تبدو أن هناك ضرورة ملحة لتنقية موروثنا الشعبي من ما علق به من نواقص يخشى أن تؤدي إلى إحداث شروخ في منظومة القيم الأخلاقية والقواعد العرفية التي دامت قرونا بسبب إفرازات الظروف العالمية الراهنة التي تسودها أزمات مرحلية متعاقبة استهدفت تشويه وعي الأمة الإسلامية وعقيدتها وتسويف أفكارها والنيل من قيمها الثابتة.

ولعل مناسبة حلول شهر رمضان المعظم فرصة طيبة لتجديد التأكيد على الاعتزاز بالتراث العربي الإسلامي، ودعم كل جهود التمسك به كأساس متين لبناء مجتمع قوي البنيان وراسخ الأسس.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: العلاقة الحميمية في رمضان بين المحرم والمباح شرعا