د. رانيا يحيى تكتب: في بدايات الأفلام الناطقة.. السينما تغني

ترتبط الموسيقى لدى الشعوب العربية غالبًا بعنصر الغناء منذ أزمنة بعيدة؛ حيث عبّر الإنسان عن الألحان وعن مزاجه الفني الداخلي بالهبة الطبيعية التي حباه الله إياها وهي الصوت البشري.

والموسيقى هي فن شامل ومؤثر، سواء كانت بمفردها كموسيقى بحتة لا ترتبط بفن آخر، أو حينما تتداخل مع الفنون الأخرى مثل الشعر أو النثر في شكل الأغنية العربية أو اقترانها بالمسرح والسينما؛ لذا لا نستطيع إغفال دور هذا الفن في تهذيب الروح وتحريك المشاعر الإنسانية والسمو بالأخلاق.

وحينما أفصحت السينما عن رغبتها في النطق وأُغلق باب السينما الصامتة ظهرت الأفلام الغنائية، ففي الغرب كان فيلم (مغني الجاز) أول فيلم ناطق في تاريخ السينما عام 1927 إخراج "آلان كروسلاند"؛ وكانت موسيقاه مسجلة على الفيلم بينما الحوار عبارة عن عناوين مطبوعة، ولكن من خلاله سمع جمهور السينما ولأول مرة صوت ممثل يتحدث لآخر على الشاشة في فيلم روائي (غنائي)، وفي يوليو عام 1928 قدمت شركة (وارنر) فيلم "أضواء المدينة"، أول فيلم ناطق بأكمله، وبالتالي اكتسبت السينما وظيفة جمالية مضافة من خلال الصوت.

أما في مصر، وهي أحد البلاد الحاضنة لهذا الفن منذ نشأته، فلم يختلف الوضع كثيرًا بل كان التميز والريادة من نصيب المرأة التي لعبت دورًا كبيرًا في مسيرة العطاء للفن السابع؛ إذ كانت أول سيدة مصرية تعمل بالسينما "عزيزة أمير" التي قامت ببطولة فيلم (ليلى) الذي قُدم عام 1927، كما شهد العام نفسه فيلم (قبلة في الصحراء) إخراج إبراهيم لاما؛ ويعتبرا أشهر فيلمين خلال هذه الفترة، وكان النجاح الشديد الذي لاقاه الفيلم الأول سببًا في أن يصفه البعض بالبداية الحقيقية للسينما المصرية.

[caption id="attachment_112974" align="alignnone" width="740"]الأفلام الناطقة د. رانيا يحي[/caption]

ومنذ عام 1930، ومع تقديم فيلم (زينب) الذي وضعت موسيقاه رائدة التأليف الموسيقي بهيجة حافظ؛ تعددت أشكال الموسيقى التي تُقدم بمصاحبة الأفلام السينمائية، إما عن طريق الموسيقى المسجلة من الأسطوانات أو عن طريق عازف البيانو أو بمصاحبة فرقة موسيقية، والتي يتراوح عدد أعضائها من 4 إلى 12 عازفًا.

وكانت تلك الفرق تصاحب موضوع الفيلم المعروض على شاشة السينما بعزف بعض المقطوعات الموسيقية المتنوعة في استراحات العرض؛ لتشجيع الجمهور وزيادة إقباله على هذه العروض.

اقرأ أيضًا.. دكتورة رانيا يحيى تكتب: الماجنا كارتا.. الميثاق الأعظم للحريات

ومع ظهور أول فيلم ناطق في مصر عام 1932 وهو (أولاد‏ ‏الذوات)،‏ الذي ‏قام ‏ببطولته‏ ‏يوسف‏ ‏وهبي‏ ‏وأمينة‏ ‏رزق،‏ وأيضًا بظهور "نادرة" ‏أول‏ ‏مطربة‏ ‏مصرية‏ ‏وذلك في‏ أول ‏فيلم غنائي ناطق (أنشودة‏ ‏الفؤاد)، بدأت تتضح بعض السمات المميزة لهذا النوع من الأفلام عن طريق الأغنية داخل الفيلم، والتي كان لها أثر إيجابي في إقبال الجمهور على الفيلم المصري وزيادة نسبة إنتاج الأفلام الغنائية عامةً.

لذا؛ نستطيع القول بأنه منذ معرفة مصر بالأفلام الناطقة كانت تلك الأفلام غنائية وهذا يدل على أهمية الموسيقى والغناء داخل الأفلام السينمائية عامة والأفلام المصرية خاصة، ومدى تأثير تلك الأغنيات في جمهور هذا الفن والذي من خلاله بدأت السينما تعرف النجومية، وليس المقصود هنا هو النجم الممثل فقط ولكن أيضًا نجم الغناء الذي دخل السينما؛ حيث اعتمد كثير من المخرجين على إسناد دور البطولة للمطرب؛ لكى يعتمد على أدائه الفني طيلة أحداث الفيلم؛ وذلك كان يعمل على زيادة إقبال الجمهور على تلك الأفلام؛ لارتباطهم بالمطربين والأغاني بشكل كبير خلال فترة وجود الإذاعة؛ ما أثرى السينما المصرية بوجوه كثيرة.

الأفلام الناطقة

ولم يقتصر وجود النجم في السينما خلال ذلك الوقت على نجوم الطرب والغناء، بل امتد ليشمل نجوم المسرح المشهورين، أمثال يوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلى الكسار؛ حيث كانت السينما فرصة سانحة لسرعة وزيادة انتشار هؤلاء الفنانين من خلال الموضوعات المتعددة للأفلام؛ فظهر الفيلم السياسي "ابن الشعب"، والفيلم التاريخي "شجرة الدر"، وفيلم الميلودراما "الدفاع"، والأفلام الكوميدية مثل "شالوم الترجمان" و"كشكش بيه" وغيرها.

وكان ‏أول‏ ‏مطرب‏ يظهر على الشاشة ‏هو‏ موسيقار الأجيال محمد‏ ‏عبد‏ ‏الوهاب؛ الذي شارك في بطولة 7 أفلام للسينما المصرية خلال مشواره الفني الطويل، وجميعها إخراج رائد السينما العربية محمد كريم؛ وكانت البداية مع الفيلم الأول (الوردة‏ ‏البيضاء) الذي قُدم عام 1933 بمشاركة سميرة خلوصي، ومن أشهر أغنيات الفيلم "جفنه علم الغزل" و"يا وردة الحب الصافي".

ولم يكن هناك خلال بدايات السينما موسيقى للفيلم بالمعنى الموجود حاليًا؛ أي أنها تُكتب خصيصًا للتعبير عن الرؤية الدرامية للمخرج، بل كانت الموسيقى الفيلمية غالبًا مختارات من الموسيقى العالمية وتستخدم الألحان الهادئة الليجاتو (المربوطة) للتعبير عن مواقف رومانسية أو كخلفية، أما التيمات اللحنية ذات السرعات النشطة فتوحي بالخفة والحيوية وغالبًا ما كانت تُستخدم للتعبير عن حدث انفعالي أو لتهيئة الجمهور لمشاعر قلق وتوتر أو لإعطاء بُعد نفسي وجمالي متعمد داخل المشهد الدرامي.

وتطور استخدام الموسيقى بشكل عام خلال تلك الفترة؛ إذ أصبحت أكثر تعبيرًا عن المشاهد الدرامية، وصارت هناك حنكة من المخرج في اختيار أماكن دخول الموسيقى وخروجها من المشهد، واستغلال وظيفتها الجمالية داخل الفيلم السينمائي كعنصر مكوّن وليس مكملًا للعمل الدرامي.

اقرأ أيضًا.. وحيد حامد.. رمز السينما المصرية وسند المبدعين والفنانين