ومنذ صغري تغريني المساحات البيضاء والفارغة من حولي؛ أي سطح من الورقة حتى الجدار، فكأنّ الأسطح تُناديني "لأخربش" عليها إن صحّ التّعبير، إلى أن بدأت أشعر بالحاجة للتّعبير عن فكرة أو موضوع يستحوذني من خلال الخطوط والألوان، وبدأت أخرج اللّوحة التّجريدية، وهكذا صقلت موهبتي من خلال التّجريب والتّعرف العميق على الخامات، والكدّ والعمل المستمرين.
أمّا عن تحوّل الموهبة لحرفة، فلدي رأي في ذلك عليّ توضيحه منعًا للالتباس اللغوي: إذا كان المقصود بالحرفة التّفرّغ للفن التشكيلي فأنا تفرغت منذ ما يزيد على 7 سنين، أمّا لو كان المقصود بـ "الحرفة" المهارة اليدويّة والاحتراف فأنا راضٍ عن نفسي واستمر في تطوير مهاراتي، والحكم للمتلقي.
أمّا إذا كان المقصود بالحرفة معناها الدّارج فالفن التشكيلي ليس "حرفة"، بل حقل للإبداع المستمر، وليس فيه أنماط إنتاج ثابتة ومتوارثة كما في الحرف اليدويّة.
فالتّجريد موجود في كلّ شيء وملازم للحياة، وهو بكل بساطة: إزاحة بعض أو كل الصفات التي يتحلىّ بها عنصرٌ ما، ثم رسمه كما نتخيّله أو نحسّه. والتّجريد نوعان: تجريد مطلق؛ أي أنّه يزيح كل الصفات المعروفة التي تعوّدت عليها العين، والنّوع الثاني: تجريد نسبي، يُزيح بعض الصفات ويُبقي على بعضها فتتعرّف العين على عناصر مشابهة في الطبيعة.
والأساس في التّجريد هو تحوّل العناصر المحدّدة إلى أشكال حرّة لا يُعيقها شيء في التّمدد على سطح اللّوحة، وتُغيّر الألوان دورها الوظيفي المُعتاد في تمثيل العنصر إلى ألوان حرّة مفتوحة، تتوازى مع حالة الفنان الإبداعية؛ أي تصبح حالة لونية بدلًا من وظيفة لونية. إنه انعتاق نحو الحرية، حريّة الإبداع.
فالفن التشكيلي قائم على الإبداع؛ أي تجدّد الأفكار والمضامين، وتجدّد الأطر التي تعبّر عن ذلك، بالتّالي تعدّد الأساليب، أما الحرفة فهي مهارة يدوية متوارثة أبّا عن جد أو مكتسبة، تعتني معاهد ومدارس متخصّصة بالتّدريب عليها، وتحكمها قوانين الإنتاج وأنماطه، لكن الفن التشكيلي لا نمطية فيه، ولا يُحكم بقوانين الإنتاج.
أمّا أن يكون مهنة؛ بمعنى "التّفرغ المهني" للكسب وتأمين لقمة العيش الكريمة فهذا كان في التاريخ البشري وما زال قائمًا وسيبقى. فالفنان في النّهاية كائن اجتماعي يحتاج مثل كلّ الناس لمصدر رزق يؤمن به حياته ومستقبله وأسرته ومستقبلها وصحتها ومستوى معيشتها.
والتطوير العقاري له علاقة ذات طابع خاص بفن العمارة وفن النّحت، وفن النصب ثلاثي الأبعاد في الفراغات، وفن تخطيط المدن والمساحات الحضرية، وغيره الكثير من الفنون المعاصرة.
والفن التشكيلي تحديدًا يُساهم مع هندسيات الديكور والتصميم الدّاخلي في إخراج المساحات الدّاخلية. لكنه يلعب دورًا رئيسًا في إعطاء المكان هويّة، ويحدّد البصمة الثقافية وقيمها الجمالية للمكان، وهو ما أحبّ تسميته "البصمة الحضارية".
التقنيات الحديثة في مجال الفن عمومًا أراها أداة قويّة بيد الفنّان، مثلها مثل الريشة والفرشاة والقلم. لكنّها أداة تفاعلية؛ بمعنى أن هناك حوارًا مستمرًا يفرض نفسه بين الفنّان وهذه التقنية، كأنّها شيء حي له إمكانياته ورأيه وأسلوبه، فكلّما كان الفنّان هو القائد المسيطر على هذا "الديالوج" كانت المخرجات أصيلة ذات مضمون جمالي مميّز، وكلّما التزمت التقنية بدورها كأداة وليس كصانع؛ إذ الخطورة في تحوّل الفنان إلى أداة تُحرّك التّقنية وليس العكس.
بالنسبة لي لا يوجد موقف سلبي لدى تجاه التقنيّات الحديثة، إلاّ أنني أمارس الفن بفرشاتي ويدي أحيانًا، وعندما أحتاج لجزئيّات ذات مواصفات محدّدة ألجأ لهذه التقنيات الحديثة في هذه الجزئية فقط.
ثانيًا: أود أن أؤكد لهم ما يعلمون، وهو أنّ أعمالي تُصنّف ضمن المدرسة التجريدية، أمّا أسلوبي فهو ناتج تعبي وكدّي ومثابرتي على التجريب، وأثناء بحثي عن طريقة أعبّر بها عن مشاعري _كما شرحت سابقًا_ لم أتأثر بأحد.
ويدي حين تمسك الفرشاة تكون في حالة استرخاء وخفّة تامة، تتحرّك على سطح القماش بسرعة توازي سرعة ما يُحتدم في داخلي من مشاعر، ناقلة أجواء الحالة اللّونية التي أمرّ بها، النتيجة فني أنا، فن "الباشي"، بأسلوبي أنا أسلوب "الباشي".
اقرأ أيضًا: حوار| البروفيسورة فادية البحيران: دعم «طب المراهقين» استثمار جيد للأجيال القادمة