يعد مفهوم الذات من أكثر المفاهيم عمقًا وتعقيدًا في علم النفس الاجتماعي. فهو ليس كيانًا ثابتًا ينبع من الداخل فحسب، بل نتاج تفاعلي مستمر مع العالم الخارجي.
في هذا السياق نطرح بعض الأفكار عن نظرية المرآة التى تحدث عنها المفكرون.
نظرية عالم الاجتماع الأمريكي تشارلز هورتون كولي
تقدم نظرية المرآة (The Looking-Glass Self)، التي صاغها عالم الاجتماع الأمريكي تشارلز هورتون كولي عام 1902. إطارًا بالغ الأهمية لفهم الكيفية التي يتشكل بها إدراكنا لهويتنا.
في حين تؤكد هذه النظرية أن شعورنا بذواتنا لا ينبع من أفكارنا ومعتقداتنا الشخصية بمعزل عن الآخرين. لكنه يتكون أساسًا من خلال تفسيرنا لنظرة الآخرين إلينا وتفاعلاتهم معنا.
الذات بين الثبات والمرونة
بحسب “psychologyfanatic”من السهل علينا أن نفضل النظر إلى الذات على أنها كيان ثابت ومتماسك، يمثل جوهرنا غير المتغير.
إلا أن علماء النفس الاجتماعي، ومنهم كولي، يرون أن الذات تتسم بـالمرونة والتغير وفقًا للسياقات الاجتماعية المختلفة والأدوار التي نلعبها. فكما أشار قانون مورفي؛ “يتصرف الناس بشكل مختلف باختلاف الأدوار”. حيث تستوعب شخصياتنا خصائص تتناسب مع الدور الاجتماعي المحدد.
كما يوضح كولي أن الشعور الأساسي بالذات، وإن كان غريزيًا ويتطور مع التجربة. فإنه يتشكل ويُصقل من خلال التفاعلات الاجتماعية.
وبينما ننظر إلى العالم من خلال “عدسة الذات الأساسية”، فإن هذا الشعور يخضع لـ”التمايز والصقل”. وينقسم إلى مشاعر ذاتية لا تحصى، تنبثق جميعها من تفاعلنا مع الآخرين.
لهذا يتفق علماء النفس إلى حد كبير على أن مفاهيمنا عن الذات تتأثر بشكل حاسم بـالتصورات العامة. إذ يكون للأحداث والتفاعلات العلنية تأثير أكبر في مفهوم الذات مقارنة بالأحداث الخاصة.

مكونات تشكيل الذات في المرآة الاجتماعية
توضح نظرية المرآة أن عملية تشكيل الذات تتم عبر ثلاث مراحل مترابطة ومتتالية:
تخيّل تصورات الآخرين: تبدأ العملية بمحاولة تخيّل كيف ينظر الآخرون إلينا. نحن نبحث عن الإشارات اللفظية وغير اللفظية، ولغة الجسد، وردود أفعالهم لنستشف تصوراتهم الداخلية.
إننا نبحث في أعين الآخرين عن دلائل تشير إلى قيمتنا في نظرهم.
تفسير تقييم الآخرين: بعد تخيل النظرة ننتقل إلى مرحلة تفسير تقييمهم. هنا نستخدم ما يُسمى في علم النفس “نظرية العقل” للدخول في عقولهم والاجتهاد في فهم حكمهم علينا.
وإذا فسرنا أنهم يروننا أذكياء أو جذابين نميل إلى استيعاب هذه التصورات الإيجابية. وعلى العكس فإن إحساسنا بالتقييم السلبي يمكن أن يؤدي إلى تكوين صورة ذاتية سلبية.
الاستجابة العاطفية: المرحلة الأخيرة هي النتيجة العاطفية لهذا التفسير. فتفسيرنا لتقييم الآخرين يؤثر بشكل مباشر في مشاعرنا وتقديرنا لذاتنا.
كما أن التقييم الإيجابي يُشعرنا بالكبرياء والرضا، بينما قد يؤدي التفسير السلبي إلى الشعور بالشك الذاتي والعار. والفكرة المحورية هنا هي أننا نستجيب عاطفيًا لتفسيراتنا، سواء كانت هذه التفسيرات دقيقة أو مجرد اجتهادات ذاتية.
هكذا يوضح كولي أن الذات ليست “ساكنة”، بل تتشكل باستمرار من خلال التغذية الراجعة التي نتلقاها من الآخرين. إننا نعيش بشكل ما في عقول الآخرين، ورحلاتنا الخيالية إلى نظرتهم إلينا تُثير مشاعرنا وتعيد صياغة مفاهيمنا الذاتية باستمرار.
تداعيات النظرية وانتقاداتها
علاوة على ذلك لنظرية المرآة تداعيات عميقة على فهمنا للسلوك البشري. فهي تسلط الضوء على ظاهرة نبوءة تحقق الذات؛ فعندما نستوعب تصورات الآخرين عنا قد نعدل سلوكنا ومواقفنا لتتوافق مع تلك التصورات، سواء كانت إيجابية أو سلبية.
كذلك هي تبين كيف تتأثر هويتنا بـالمجموعات الاجتماعية التي ننتمي إليها. حيث نسعى للحصول على القبول والتصديق منها لتشكيل هويتنا ضمن تلك السياقات.
في المقابل يجادل المنتقدون بأن النظرية قد تبسط تعقيد إدراك الذات بشكل مفرط. متجاهلة دور التجارب الداخلية والتفكير الفردي المستقل عن التفاعل الاجتماعي. إلا أن أهميتها لا تنكر كإطار لفهم كيفية تأثير التفاعلات الاجتماعية في الرفاهية العامة وتقدير الذات.
في حين ترتبط نظرية كولي ارتباطًا وثيقًا بالعديد من المفاهيم في علم النفس. مثل: التفاعلية الرمزية التي تشرح بناء الذات من خلال التفاعل، ونظرية السلوك الاجتماعي لجورج هربرت ميد التي تتحدث عن بناء الذات عبر أخذ الأدوار.
كذلك نظرية تقديم الذات لإيرفينج جوفمان التي تصف كيف يقدم الناس أنفسهم في أدوار اجتماعية مختلفة.
















