تأرجحت النظرة إلى الاهتمام بالتراث بين مفهومي تأكيد الانتماء والنزوع إلى التميز، وأدى واجب تثمين التراث إلى البحث الدؤوب في التاريخ والغوص عميقًا في الذاكرة المادية واللامادية؛ لاستنباط الأبعاد الحضارية ومقومات التوازن بين التقدم في ميدان القيم والوعي الإنساني والتقدم المادي.
ارتبط البحث في التراث، بمساعي تحديد الأبعاد الروحية للأمم، وبجهود الكشف عن الجوانب المذهبية في حياة الشعوب وجذورها الدينية، والتعرف على أعرافها وتقاليدها ورفع الغطاء عن حقيقة العلاقات الاجتماعية السائدة ومقام العدالة فيها.
ومنها برزت الحقائق الأساسية الراسخة حول علاقة التراث المباشرة في تحديد طبيعة مدلولات الهوية الثقافية الأصيلة للشعوب والواضحة في المخطوط، وفي ألوان الفنون التشكيلية وتطور الحرف وفنون الخط والزخرفة والفنون المسرحية والأعمال الموسيقية والأدبية والتراث العمراني وغيرها من التراث المادي واللامادي الذي ما زال يشحن المخيلات بجرعات عالية من الدهشة ويحدث استدراك تفاعلي مع رصيدها الحضاري في غير زمانها.
وعليه يمكننا تلمس مبررات تقاسم مهام التفاعل الثقافي والمواطنة التي تفتح المجال أمام تنظيم المشاورات المتعددة الفاعلين في المجال وتعزيز قدراتهم بتحسين كفاءاتهم؛ حيث ينبغي إتاحة الفرصة لاستجلاء الرؤية الكاملة والأوضح للعمليات المجسدة لمدلولات التراث، مع تقييم المكتسبات وقوى الدعم التي تسمح بديمومتها في مجالات حماية التراث وترميمه، وتنشيط الورشات الثقافية الدولية.
وأمام العولمة كظاهرة سياسية اتضح حجم تهديدها لأصول الشعوب وحقيقة هوياتها ورصيدها الثقافي.
وكشفت جهود الاستشراف السياسي والاجتماعي، حقيقة ممارسة محترفي السياسة الانتهازية، البهتان على التاريخ والذاكرة الانتقائية؛ لإخراجها عن سياقها الزمني، كبداية لخلخلة التفكير في أصالة الهوية.
حيث برزت محاولات فرض تحويرات أساسية لإعادة صياغة تعريف مفهوم الدولة الوطنية من الناحية العقائدية والثقافية بأبعد قدر من الاستقامة الفكرية، ورسم السيناريوهات لتفكيك مقوماتها.
ولكن تم حسم” الصراع” حول مسألة الهوية لصالح مدلولات التراث الثقافي؛ لأن لكل جماعة بشرية ثقافتها الخاصة التي كشف تراثها صدق أصالتها وأكد حقيقة هويتها بصورة جوهرية بعدما أنعش الذاكرة التاريخية للشعوب بروح الوطنية تراث الحضارة العربية والإسلامية الذي بقي محفوظًا في المخطوطات والعمارة والفنون، وفي شتى المناحي.
وتجليات الفكر والإبداع ينظر إليها كونها حضارة علم وعمل، وتلازم بين الفكر تأليفًا وتصنيفًا وعمارة وفنونًا، تخطيطًا وبناء وإنتاجًا، وإذا كان الفكر عامًا ومنهجًا، والفن لغة وأسلوبًا، فلابد أن يحدث تلازم بين التراث والمخطوط والعمارة والفنون، وبالتالي لا نتصور الفكر بلا إنتاج، ولا الفن بلا جمال، ومحورهما الإنسان القادر على التفكير والإبداع.
ويكون تثمين التراث في كل ما يخص التاريخ والذاكرة المادية واللامادية، وبالاهتمام بالمرافق ومنها: الاهتمام بالمتاحف لكونها مؤسسة تثقيفية علمية بحثية وقطب جذب سياحي مسرع لعملية التنمية الاقتصادية.
ولكونها أيضًا آلية أساسية تساعد على فهم التاريخ فهي تلعب دورًا مهمًا في فهم الماضي لتعميق الوعي بالحاضر تأسيسًا للمستقبل، والثقافة المتحفية، وتسهم في دعم جهود التربية والتعليم.
بينما يحافظ التراث الوطني على أصالة الهوية الثقافية في عالم سريع التغير، والسياحة المتحفية، تسهم في تنشيط الذاكرة الثقافية وتزكي الروح الوطنية وتزيد الوعي بأهمية الحفاظ على التراث كشاهد تاريخي على أصالة الأمة وتعزز روح الانتماء ومشاعر التعلق بالوطن وهي مظهر حضاري تحمل رسالة تاريخية ومسؤولية اجتماعية.
لقد حققت الحضارة الإسلامية، السبق في تشكيل مقومات التوازن بين التقدم في ميدان القيم وتطوير الوعي الإنساني، وبين التقدم العلمي والمادي.
كما أبرز بعدها الحضاري المتفرد خصائص العمران الإسلامي، وأكد أثر القيم والتعاليم الإسلامية في توجيه العمل الإبداعي والفني فكرس بذلك حزمة من الجوانب الأخلاقية والجمالية والعقائدية في فن العمارة، مثلًا، وتخطيط المدن وتطوير الحرف والصناعات التقليدية، التي دعمت جهود التنمية البشرية بجرعات ذات حمولة وطنية ومعان مؤثرة ذات قيم عالية مثيرة للحماسة والهمم، فعززت بذلك أثر الجانب الروحي على النفس لتسمو به وتتألق.
ويتعزز في نفس الوقت تقدير الفرد لذاته ولمجتمعه وحضارته، ثم لينعكس عليه أثر فاعلية الجانب الاجتماعي في خلق التوازن الحقيقي للإنسان في حياته، فبها تزهو حياته ويوفق في تلمس بدايته الصحيحة نحو جعل أحلامه حقيقة.
يخصص العديد من الدول أيامًا من كل عام لإحياء تراثها وهي محطة تراثية مهمة وعلامة ثقافية فارقة في الكشف عن المكنون التراثي.
كما تعد بمثابة سيرة ذاتية للتاريخ ومناسبة لتأريخ ذاكرة المكان ضد محاولات الاستلاب الفكري والتغريب القومي وتدمير مقومات الشخصية الوطنية من جنسية ولغة ودين، وتعظيم قيمة التراث هو عامل التوازن بين الانفتاح والحداثة وبين المناعة الحضارية وتأصيل مدلولات الهوية.
صبحة بغورة تكتب.. التراث ومدلولات الهوية

الرابط المختصر :