د. رانيا يحيى تكتب: شيرين أبو عاقلة.. شهيدة في محراب الإعلام

أجيال نشأت في ظل الاحتلال الإسرائيلي الذي أوقع الفلسطينيين في براثن الظلم والاعتداءات الغاشمة ليل نهار.

أوجعني استشهاد المقاتلة العتيدة سيدة الإعلام الفلسطينية القديرة شيرين أبو عاقلة؛ التي عملت لمهنتها سنوات طويلة متحدية كل الصعاب، لم تعرف للخوف طريق، ولم تعرف الخضوع أو الخنوع أو حتى الاستسلام لقضية وطنها التي باتت تتراجع يومًا بعد يوم في أوساط المجتمع الدولي المتصارع حول القوى الدولية العظمى بماديات الحياة والمؤامرات الكبرى التي تحاك بالأمة العربية والتي أهوت معظم أمتنا العربية فريسة لتلك الأفكار التي تكرس لتحويل الدول العربية لدويلات صغيرة، من أجل الحفاظ على حجم ودور المحتل الغاصب في المنطقة.

هؤلاء المعتدين قلوبهم لا تعرف الرحمة أو الشفقة أو الهوادة أو حتى أقل القليل من الإنسانية، رصاصهم الغادر لا يفرق بين امرأة أو طفل أو مسن، وتظهر علينا صور المواطنين العزل الأبرياء وهم ينتهكون كرامتهم ويزهقون أرواحهم على مرأى ومسمع من الجميع، وخاصة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي ساعدت على توصيل المعلومة والحقيقة -إن حسن استخدامها وتوظيفها- فتصل إلينا في التو والحال.

لكن الغريب أن المجتمع الدولي دعاة الحرية وحقوق الإنسان، تصمت ألسنتهم وتعجز عن النطق أو حتى مجرد الشجب لما يحدث!! رأينا العديد من الأحداث التي تقشعر أبداننا لما اختلقوه أو مارسوه ضد من يدافعون عن قضيتهم!! لكن بموتك واستشهادك أيتها السيدة العربية؛ أيقظتِ الضمائر النائمة والعقول الحائرة بين الدفاع عن قضية وطن وأمة وبين التعايش الآمن في كنف قوات الاحتلال. لقد استقر قرارك حول الخيار الأصعب بالدفاع مستبسلة عن قضية وطنك.

تاهت القضية الفلسطينية وسط متاهات أخرى ونضالات عديدة تجوب دولنا العربية بعد أن بات التشتت وشيك، والمعاناة مستعصية فى ظل ما أسموه الربيع العربي الذي مزق وحدتنا وبعثر قضيتنا، لتتحول من الدفاع الشامل عن تلك الأرض المقدسة ليجوب النضال متفرقاً كافة بقاع أمتنا التي أجبرت وأُكرهت على خوض تلك المعارك المفتعلة.

ورغم كل هذا التشتت وانحسار القضية إلى حد ما، إلا أن المهمومين بها لم يتناسوها أو يغفلوها، وعاشوا مخلصين لها مدافعين عن كرامتهم. هؤلاء رموز وطنية مخلصة، من بينهم شيرين أبو عاقلة؛ سيدة الإعلام المكافحة من أرض المعركة بل وكل المعارك التي خاضتها لتعرية المحتل المغتصب عما يبدر منه من جرائم وحشية ضد الإنسانية، فكنت لهم وجه الحقيقة، وصوت المناضل بعزة وقوة وشرف، لذا، كنتِ هدفاً غالياً وجب التخلص منه، فاغتالوا صوت الضمير الحر المتمثل في شخصك.

موتك أيتها الباسلة العتيدة، أمسى بؤساً وقهراً في صدور محبيك ومتابعيك عبر منابرك الإعلامية الراصدة لخيانة صهاينة الاحتلال، أوجاعنا تهتز لها الأراضين السبع، متزلزلة معلنة عن فيض الغضب العارم، عن الهوان المبعثر في أفئدة من تبقى لديه نخوة تجاه الشعور بعزة الأوطان.

لقد حاولوا بخسة أن يفنوا دورك ويسكتوا صوتك ويخرسوا ضميرك، فشلوا، ولم يتبق لهم سوى الخسة باغتيالك وأنتِ تُناصري الحق كجندية في أرض المعركة ممسكة بميكروفون سلاحك الكاشف عن عوراتهم وسلوكياتهم العاهرة، أفضتي مزيدًا من المحبة والتقدير لأصالة دورك ومهنتكِ وبطولتك، وتركتي صفعة في وجه حمقى الاحتلال للتاريخ.

ستظل شيرين أبو عاقلة، رمزًا للنضال والجسارة، لذا، انتفضت لروحك فلسطين بأطول جنازة في التاريخ الفلسطيني المعاصر لمسافة 75 كم من جنين إلى القدس؛ لتعبر عن المشاعر الفياضة التي استقبلتها عند بارئها في عالمها الخالد.

موتك الحزين، أشعل مواقع التواصل الاجتماعي كافة، وصورك زينت الصفحات والمواقع، ممن عرفك وتابعكِ ومن لم يحظ بذلك، لكن اجتمع الكل على ما يبغونه من رحمات لأجل روحك الطاهرة، وأيضًا حالة الاستنفار المحملة بلعنات ترصد آلام غدر تلك الرصاصات الغاشمة من العدو، معبرة عن مزيد من الهوان والحسرة والمذلة في هذا الشكل الإرهابى المتمثل في إرهاب الدولة، مؤكداً الصمت المطبق من النظام السياسي الدولي ومعاناته ضد من ينتهكون الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وقبل هذا وذاك، يبددون أبسط أشكال الرحمة والإنسانية لتترك لنا الحزن والعجز والقهر.

شيرين أبو عاقلة

ابتسامتك الملائكية الطيبة لن يمحوها الوقت من الذاكرة، بل ستمكثين بطلتك البهية الناضرة في عيوننا، المرأة الشجاعة التي حطمت حاجز الخوف وحاجز الجنس، لتعبري بإرادة المقاتل عن إيمانك بقضيتك، ساخرة ممن يحاوطك بحذره ومخاوفه، لأنكِ دائمًا كنتِ الأقوى والأبقى، وكأنكِ العين الراصدة بثبات وإخلاص لانتهاكات العدو. تمتلكين الثبات الانفعالي حتى في أحلك المواقف، كنتِ تنقلين المعلومة بيسر، وتبدين رزينة واثقة تنتظرين لحظة الانتصار والاستقلال التام، لكنها ستتحقق بشرف أمثالك.

القضية، قضية وطن وأمة وعروبة، ولن تفقد حماسها رغم مرور الأعوام ورغم إراقة الدماء، إلا أن قتلك الغادر وأنتِ ترتدين الصديري الواقي لتأتيك الرصاصة الغادرة في الرأس، فتقعي في الحال صريعة لغياب الإنسانية، لكنكِ شددت من أزر قضيتك واستعدتي شحذ الهمم مرة أخرى من أجلك ولأجلك.

يا شيرين، ما بين الفناء والخلود تناقضًا جذريًا، بإرادتهم جاء الفناء وبعظيم لطف الله جاء الخلود، وداعك المهيب سيظل يذكره التاريخ. المواطنة الحقيقية ظهرت في تلك اللحظة العروبية من كل الأطراف، الجميع يودع امرأة مسيحية مناصرة لقضيتها صادقة في مهنيتها، تعالت أصوات الإنسانية وتراجعت التوافه.

نستصرخ الإنسانية والكرامة البشرية التي توحدت شرقًا وغربًا شمالاً وجنوبًا من أسرتك العربية الكبيرة، متمنية لروحك السكينة وأن ترقد في هدوءٍ وسلام، لتلقى ربكِ راضية مرضية بعد أن أديتِ رسالتكِ وابلغتِ أمانتكِ للعالم أجمع.

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]ليني ريفنستال د. رانيا يحيى[/caption]

فها أنتِ يا جندية يا صاحبة الرسالة العسكرية والوطنية بعقيدتك الروحية، أتتكِ الشهادة لمنزلة تستحقينها وخلود يعكس إرادة الله. وكما قال الكاتب الصحفي محمد شعير معبرًا عن حزنه لفقدك بكلمات تتعالى من عمق إحساسه، قائلاً : "ارفعى رأسك.. فقد مارستِ أشرف الأدوار فى زمن عز فيه الشرف.. واليوم اسعدي فقد كنتِ امرأة في زمن ساد فيه أشباه الرجال". حقًا لقد كنتِ امرأة بألف رجل.. خضتي معركتك بنزاهة وكبرياء حتى موتك جاء بكبرياء نضالك. ارقدي في سلام ولن ننساكي.

دكتورة رانيا يحيى رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون عضو المجلس القومي للمرأة بمصر

اقرأ أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: «توسكا».. مشاعر إنسانية متأججة