د. رانيا يحيى تكتب: الكينج محمد منير.. في عشق الجمال

أطل علينا فى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، تحديدًا عام 1977، شاب نحيف ذو بشرة سمراء جاء من أعالي مصر.. من أرض النوبة بلد العراقة والأصالة التي قدمت الكثير لشعب مصر منذ بناء السد العالي وحتى صوت مصر الغالي محمد منير؛ الذي قدِم للقاهرة أثناء دراسته الجامعية بكلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان، واكتشف صوته الشاعر عبد الرحيم منصور وقدمه للملحن أحمد منيب؛ لتبدأ رحلة عطاء فني ونجاح جماهيري لا ولن تنتهي بعد أن اخترق القلوب بسرعة السهم.

وكان للبيئة النوبية التي نشأ فيها "منير" وامتدت جذوره إليها، أثر في اختياراته الغنائية وأسلوب غنائه الذي يمثل حالة إبداعية فريدة لم يستطع مغنٍ آخر مضاهاتها؛ حيث يمثل كلٌ من الموسيقى والغناء النوبي أهم مقومات وعناصر الفولكلور في منطقة الشرق الأوسط؛ وذلك لما لهما من خصائص؛ منها: جدية الموضوعات التي تساير جميع المناسبات الدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها، وغالبًا ما يُستخدم في مصاحبة الغناء النوبي التصفيق بالأيدي ودقات القدم، وهو موروث إيقاعي فريد يعتمد على الإيقاعات المركبة والتى تتمازج داخلها أكثر من أي شكل إيقاعي حينها؛ ما يثري النسيج اللحني ويعطيه طابعًا مميزًا.

كذلك، استخدام السلم الخماسي المميز لموسيقى أهل النوبة وبعض دول آسيا وإفريقيا، وهو ما يطوّع موسيقاهم ويجعل لها لونًا فريدًا؛ للحفاظ على هويتهم وسماتهم داخل المساحة اللحنية والصوتية المحدودة.

ويظل المطرب عادة في منطقة وسطية طيلة الأغنية، لكن تلعب الزخارف الحسية دورًا في إضافة بُعد جمالي وفقًا لمدى تأثير البيئة النوبية في المطرب وهو ما يظهر بجلاء في أسلوب "منير".

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]ليني ريفنستال د. رانيا يحيى[/caption]

أعتقد أن إبداع محمد منير، يكمن في اختياراته اللحنية التي فرضت نفسها على الوسط الفني، وانتقائه كلمات أغنياته التي عبرت عن المخزون العقلي الحقيقي لدى كل سامع مع اختلاف بيئته وظروفه وثقافته، بجانب ما يتمتع به صوته من جمال، فكان هو أكثر مَنْ على الساحة إلمامًا ببواطن السياسة التي تناولها في أغنياته بشكل غير مباشر، وكذلك القضايا الفلسفية جنبًا إلى جنب العاطفية والاجتماعية كاحتياج فني حقيقي لدى العامة.

لذلك، وصل "منير" إلى قاعدة عريضة من الجمهور العربي خلال وقت قصير حتى أصبح هو "الملك" بعد أن أطلق عليه معجبوه هذا الاسم، وأعتقد أن يرجع أولًا لمشاركته فى مسرحية "الملك هو الملك" التي قُدمت منذ عام 1988؛ أي بعد ما يقرب من عقد على وجوده في الساحة الغنائية، وهذا أكبر دليل من الجمهور على عبقريته الغنائية بإطلاق هذا اللفظ عليه في إيجاز بكلمة واحدة تؤكد كفاءته وتفرده.

والأمر الثاني الذي أود الإشارة إليه، هو استمرار "منير" منذ أن بدأ في أواخر السبعينيات وإلى الآن في أن يكون له لون مميز لم يسبقه إليه أحد ولم يستطع مطرب آخر السير على نهجه بهذا الاحتراف والإبداع والتجديد؛ من حيث حسن اختيار الكلمة واللحن بجانب موهبته الربانية. فأصبح ملك الأغنية المعاصرة بكل ما تحمله من خصائص تمزج بين الشرقية والغربية، سواء على مستوى الأداء أو التوزيعات الآلية، وأيضًا استخدام الإيقاعات السريعة النشطة المحببة لجميع الأعمار المتفاوتة من الطفولة إلى الكهولة، والتي تساير التطور التكنولوجي السريع في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين بكل ما فيه من وسائل اتصال وتناقل معلومات وخلافه، وكذلك تقنيات هندسة الصوت التي واصلت مسيرة التقدم، ودائمًا "منير" يتماشى مع تطورات العصر.

بالإضافة إلى أن إمكانات صوته المميز التي تنتمي لطبقة "التينور" الرجالية، تحمل بين طياتها الكثير من الأبعاد الفلسفية والقضايا المصيرية التي احتوتها أعماله الغنائية، بجانب كل ما قدمه من أغنيات عاطفية واجتماعية وبذلك وصل إلى قاعدة عريضة من الجمهور العربي في وقت قصير، وبالتالي فهو قائد ثورة التغيير في الأغنية المصرية من حيث الشكل والمضمون، وكانت تجربته الجديدة والمتمردة على الشكل التقليدي هي مصدر الإلهام لكل جديد.

وكان للهجة العامية أثر في قرب أغنياته من الجماهير باختلاف الأعمار والأجيال وحتى الثقافات والبيئات مع تشبع أغنياته الدرامية بمضامين هادفة ذات رؤى فلسفية وأبعاد إنسانية لها أثر إيجابى في المجتمع، كما أن أداءه يتميز بوضوح مخارج الألفاظ؛ ما يسهّل التذوق على المتلقي، وأداءه يقارب الأداء الحر المرتجل في بعض المقاطع، التي يسيطر عليها الإيقاع المنتظم وأداء لحني حر بعض الشيء، وصوته الدرامي المغلف بالشجن الملموس والتعبير المفرط جاء من خلال أحاسيسه الصادقة وإيمانه الشديد بكل ما يقدمه على الساحة الغنائية، سواء كأغنيات في أشرطة الكاسيت والاسطوانات المدمجة أو من خلال المشاركات الدرامية في السينما والتليفزيون.

وقد عبّر "منير" بإبداع عن شخصيات مختلفة في السياق الدرامي للأعمال التي شارك فيها؛ حيث لعبت كثير من أغنياته دورًا مهمًا في نجاح تلك الأعمال جماهيريًا؛ ما يؤكد عبقريته الغنائية في المجالات المختلفة، ويُعتبر مقام "الكرد" من أكثر المقامات استجابة لصوت "منير" فهو من أكثر المقامات المستخدمة في الموروث الغنائي النوبي بعد السلم الخماسي الذي يميز الموسيقى النوبية.

و"الكرد" مقام شرقي يُؤدى على الآلات الغربية رغم ما يتمتع به من المزج بين الشجن الشرقي والغربي، فهو من المقامات الطيّعة المرنة لاستخداماتها، ويُبنى عليه العديد من الأغنيات العربية، ويؤديه "منير" ببراعة. والنزعة الشرقية المتولدة في أبعاده ترجع لاقترابه من مقام "البياتي" الشرقي الصميم ذي الثلاثة أرباع النغمة المستخدم في كثير من الأغنيات الشعبية، وتعتمد الموسيقى النوبية غالبًا على الإيقاعات فقط؛ ما يجعل المطرب يطلق العنان لإحساسه الإبداعي بدون قيود النغمات الآلية والالتزام بمقام معين وتسيطر عليه روح الارتجال اللحظي الابتكاري.

ومزجت الكثير من أغنيات "الكينج" بين الشجن الشرقي والإحساس الغربي باستخدام آلات وإيقاعات غربية لكن تم توظيفها بما يخدم أسلوبه النوبي في أداء ألحان مميزة صنعت حالة وجدانية ونفسية ملهمة للتراث النوبي في أغنياته وحافظت على تفرده وتميزه، كما تأثر بالطابع النوبي الذي يعتمد على آلات الدفوف الإيقاعية وهو من أكثر الآلات المستخدمة في أغنيات "منير"؛ وذلك أضفى انطباع القومية النوبية على أعماله.

أما عن التوزيعات الآلية الكثيفة، فأرى أنها تضعف من جمال صوت منير الصافي الدافئ؛ حيث يتوارى صوته وسط تلك التوزيعات الهائلة بما لا يتفق مع جمال موهبته الفطرية، وذلك بعكس كثير من المطربين الذين لا يمتلكون هذه الحاسة والموهبة الإلهية فتكون الآلات الصوتية وسيلة لمواراة هذا الضعف في الإمكانات الصوتية الهزيلة التي تبعث حالة من الضجيج حتى لا يشعر المتلقي بضعف الصوت.

والخلاصة أن موهبة محمد منير، تجمع بين جمال الصوت ورقته وعذوبته من ناحية، وبين صدق الإحساس وحسن اختيارات الكلمات والألحان من ناحية أخرى، وتجعل المتلقي في حالة استماع واستمتاع؛ لذا حظي بهذه الشعبية والجماهيرية بعد مشوار يقارب الأربعين عامًا من النجاح.. لكننا ما زلنا نغوص فى بحر منير اللا نهائي، متلهفين لاكتشاف مواطن جمالية أخرى فيما سوف يقدمه لعشاقه في السنوات المقبلة بإذن الله.

اقرأ أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: نايف البقمي وفضاءات من وحي المسرح