بعد الأزمة العالمية التي اجتاحت الإنسانية جمعاء بانتشار الوباء اللعين «كوفيد 19» وتوقف الحفلات والأنشطة والمهرجانات وغيرها استشعرنا الحاجة الحقيقية لدينا لاستعادة هذه الروح الفنية والحالة الوجدانية والاستمتاع بالحفلات الموسيقية الممتعة.
ومن الحفلات التي افتقدناها موسيقى المبدع عمر خيرت؛ الذي تربع على عرش قلوب محبيه واستحوذ على إعجابهم، ليس فقط بموسيقاه الجميلة الإيقاعية الرشيقة ذات الجمل اللحنية الهادئة التي يسهل تمييزها والمقربة لنا كمجتمعات شرقية، ولكن أيضًا شخصيته الهادئة وطباعه الخلوقة وتواضعه الجم مع الجميع والذي يأسر المتلقين من كل مكان، متهافتين على رؤيته والاستمتاع بفنان يندر مثله في هذا الزمان.
[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"] د. رانيا يحيى[/caption]
وأعتقد أن هذا البعد الإنساني له أثر كبير في إنتاجه؛ فهذه الشخصية الهادئة تميل للعزلة إلى حد الانطوائية، ما جعل مؤلفاته وأعماله تعبر دراميًا وتفاعليًا عما تواريه هذه الشحنة الإبداعية المتمثلة في صورة هذا الفنان الذي ظهرت موهبته في سن مبكرة عندما اكتشفه عمه الموسيقي الرائد أبو بكر خيرت؛ وشجعه فأثقل الموهبة بالدراسة في الكونسرفتوار؛ حيث تعلم عزف البيانو ودرس العلوم الموسيقية والنظرية المختلفة، واستكمل دراسة التأليف بلندن.
وتأثر «خيرت» بروافد موسيقية متعددة؛ منها الموسيقى الشعبية والشرقية نتيجة للبيئة التي عاش فيها في وسط القاهرة بالقرب من حي السيدة زينب كواحد من الأحياء الشعبية، وكذلك الثقافة الواسعة والأنواع المختلفة من الفنون التي تلقاها من الصالون الثقافي الذي أنشأه جده محمود خيرت؛ المحامي والشاعر والأديب والموسيقي.
وكان هذا الصالون ملتقى الأدباء والكتاب والمفكرين وأهل الفن، مثل محمود درويش وطه حسين ومصطفى رضا ومحمد حسن وغيرهم كثيرين؛ ما أكسب عمر خيرت الطفل ثقافات في كل المجالات الفنية والأدبية، بالإضافة إلى تأثره بالموسيقى الغربية في سنوات التعليم، وأيضًا موسيقى الجاز في بداية مرحلة الشباب، وهو ما جعل منه نبعًا للألحان الموسيقية الرشيقة والجمل التي يسهل ترديدها.
نجح عمر خيرت في توظيف نغمات السلم الموسيقي بما يتوافق مع الشعوب العربية، مناجيًا أحاسيس ومشاعر تتدفق فيها الجمل الموسيقية بانسيابية الهارمونيات والإيقاعات والمقامات التي تصنع جملًا لحنية غاية في الرقة والجمال كأنها شخص يخاطب مكنونك بكل ما فيه من أفراح وأحزان وتناقضات وانفعالات، لكن أيضًا بما لديه من ملكات إبداعية كأنها طاقة تنفجر بقوة فتمنحك شحنات نفسية هائلة.
وذلك مع وجود الهارمونيات بكثرة واستخدام التلوين الصوتي من الآلات المختلفة؛ الأمر الذي يبرز طبيعة صوت كل آلة في منطقة محببة لديه تمتع الجماهير، كذلك آلات النفخ الخشبية التي يلقي عليها "خيرت" دور البطولة في كثير من المؤلفات فتزيد من جمال وبريق الألحان، أما عن آلة الهارب بصوتها الرقراق الرنان فهو يلقي على عاتقه بعض الألحان المنفردة التي تميز مؤلفاته.
والحقيقة أننا أمام فنان استطاع أن يرتقي بالذوق العام وسط ما نعانيه من تراجع وتدنٍ، ونحن في انتظار حفلاته باعتبارها عودة الروح للجسد العليل بعد فترة الغياب؛ ليضيء سماء الفن في كل مكان.
د. رانيا يحيى عضو المجلس القومي للمرأة
اقرأ أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: باليه سندريلا.. قصة حب على أنغام الموسيقى