تهل علينا نسمات الربيع بكل ما فيها من عذوبة وألوان براقة مع رقة الطيور والعصافير بغنائها وصوتها المبهج وتفتح الشجر والزهور.. حالة شعورية تم تجسيدها بواحدة من أشهر أغنيات الربيع بمطلعها “آدى الربيع عاد من تانى والبدر هلت أنواره..
الربيع 2020
و”فين حبيبي اللي رماني من جنة الحب لناره” كلمات الشاعر الغنائي الراحل مأمون الشناوي؛ ألحان وغناء الفنان الرائع فريد الأطرش، والتى ارتبطت فى وجداننا كمصريين وعرب بفصل الربيع بكل ما فيه من بهجة ومحبة.. ومنذ ذلك الحين تعد هذه الأغنية أيقونة للتعبير عن نسمات الربيع.
وظلت هكذا حتى ظهر لنا وليد آخر للربيع يحمل ألوان الربيع البديعة بمباهج وملامحه الجذابة بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، حين غنت سندريللا الشاشة العربية “سعاد حسني” أغنية “الدنيا ربيع والجو بديع” كلمات عبقري العامية الراحل صلاح جاهين، الذي أبدع في وصف ترانيم الربيع ومنمنماته بألوانه الزاهية وبريقه الساطع، فبعثت تشبيهاته ووصفه صورًا سيكولوجية وجمالية تفوق الواقع.
والأغنية من ألحان الموسيقي الملهم كمال الطويل؛ والذي استطاع أن يعكس حالة البهجة والسعادة من خلال اللحن الرشيق جنبًا إلى جنب مع الأداء الساحر البسيط لصوت الفراشة الصغيرة سعاد حسني؛ بكل ما فيها من طاقة إنسانية متلهفة على الحياة فى فيلم “أميرة حبي أنا” عام 1974م، وإخراج حسن الإمام.
وحينما نعود بالزمن لعصور الموسيقى الكلاسيكية نجد سيطرة الربيع بمباهجه على بعض المؤلفات الموسيقية العالمية، مثل “الفصول الأربعة” للفيولينة والأوركسترا، للإيطالي أنطونيو فيفالدي كواحد من أهم مؤلفي عصر الباروك، وبدأهم بكونشيرتو الربيع في ثلاث حركات “سريع، بطيء، ثم يختتم برقصة الحقول”.
ألحان الكونشيرتو
وتتميز ألحان الكونشيرتو بجمالها وبساطتها وقدرتها على التعبير، ووصف هذه الأحاسيس وكيف تغور في أعماق النفس البشرية عن طريق إيقاعاتها المنسابة الراقصة التي تعمل على تأرجح الجسد وتمايله مع الألحان صعودًا وهبوطًا للحد الذي يجعل هذه الكونشيرتات تقترب مع كل من يحاول التواصل مع الموسيقى الكلاسيكية؛ لما تتسم به من خفة ورشاقة وبساطة؛ لذا نال هذا العمل شهرة موسيقية كبيرة فى جميع الأوساط بل يُعتبر من أكثر مؤلفات “فيفالدي” ذيوعًا وانتشارًا.
أما “لودفيج فان بيتهوفن”؛ فكان همزة الوصل بين اثنين من أهم العصور الموسيقية؛ وهما “الكلاسيكية والرومانتيكية”، والذي استطاع؛ من خلال سوناتا الربيع للفيولينة والبيانو رقم 5 مصنف 24 في سلم “فا” الكبير والتي كتبها عام 1801، التحرر من قواعد الكلاسيكية وبزغ نجم الرومانتيكية عبر الحركات الأربع للسوناتا.
ثم انتقلنا للعصر الرومانتيكي ذاته، والذي حوى عدة أعمال موسيقية تُعبر عن جمال الربيع وروعته، فمثلاً المؤلف النرويجي “إدوارد جريج” اهتم بالربيع وكتب مقطوعات للبيانو المنفرد أو للصوت الغنائي بمصاحبة البيانو؛ منها “الربيع وللربيع، وقت الربيع، والربيع الأخير”.
على جانب آخر، أبدع المؤلف الروسي “سيرجي رخمانينوف” في عملًا أطلق عليه “مياه الربيع”، مصنف 14 رقم 11 للغناء والبيانو، ويوحي البيانو بحالة تدفق المياه ببهجة وفرح موحية بالربيع وفيضاناته، والألحان منسابة في حالة من الحب والتداخل مع الكثير من المشاعر والعواطف المعبرة عن السعادة، ويشعر المستمع بالهدوء في بعض الأجزاء قبل تفاعلها، وكأنها الهدوء الذي يسبق العاصفة.
وهناك كذلك “فالس أصوات الربيع”، مصنف 410 للأوركسترا والسوبرانو الصولو، والذي كتبه “يوهان شتراوس الابن” عام 1882 على نص “ريتشارد جينيه”، وهو يتميز بدخول رائع في سلم “سي بيمول الكبير”، وبعد المقدمة يستدعي مباهج الربيع باستخدام آلة الفلوت برشاقتها وحيويتها بتقليد أصوات العصافير، ويليها إيحاء بالاستحمام في فصل الربيع مع انتقال المقام إلى سلم “فا” الصغير ثم فواصل للخروج من الحالة المزاجية، وتليها الألحان المرحة المبهجة في سلم “لا بيمول الكبير”، واعتمد المؤلف على صوت السوبرانو ليحاكي أصوات الطيور والطبيعة من خلال الصوت البشري مع التناوب بين الغناء والآلات الموسيقية لتقليد تغريد الطيور.
كذلك نجد “سيمفونية الربيع” للمؤلف الألماني “روبيرت شومان”، والتي كتبها عام 1840 مصنف 38، من أكثر أعماله حيوية واحتفالًا بالحياة ومباهجها، أما العبقري البولندي “فريدريك شوبان” فكتب أغنية “الربيع” في سلم “صول الصغير” للغناء المنفرد والبيانو مصنف 74 رقم 2، كما كتب فالس الربيع الراقص للبيانو الصولو، وفيها انعكاس للحالات الشعورية الحالمة والمتدفقة الباعثة على البهجة والتفاؤل في فصل الربيع.
ومن الأعمال المحببة والشهيرة أيضًا، والتي تعكس حالة الحب والبهجة الموجودة في فصل الربيع، أغنية الربيع للموسيقي الألماني “فيلكس بارثولدي مندلسون” من عمله الشهير “أغنية بدون كلمات” للبيانو مصنف 62 رقم 2 في سلم “لا الكبير”، والتي كتبها بين عامي 1829 و1845، وهي مقطوعات غنائية على آلة البيانو توحي بالتفاؤل والمرح؛ حيث عبّر المؤلف عن انتظاره للربيع بكل مباهجه بعد فصل الشتاء وما فيه من ظلمة وأمطار وعواصف، ولكن يأتي الربيع بشمسه المشرقة وجوه البديع.
وحينما نتحدث عن الربيع، فلا يمكن أن نغفل واحدًا من أهم الأعمال الموسيقية على الإطلاق، والذي كتبه المؤلف الروسي “إيجور سترافنسكي” في القرن العشرين؛ حيث مثّل ثورة هائلة على التقليدية المتبعة في المرحلة الرومانتيكية بكل رومانسيتها وألحانها الحالمة، وظهرت الوحشية والتي تعتمد على التنافرات الغريبة والإيقاعات المتوترة والأصوات الطرقية العنيفة، واستخدم “سترافنسكي” في هذا العمل تكوينات آلية لأول مرة، كما استخدم الآلات التقليدية في مساحات صوتية جديدة غير مطروقة من قبل، وكان استغلاله للآلات الوترية كآلات إيقاعية هو ما أعطى لهذا العمل بريقًا مختلفًا عن سابقه.
ووضع “سترافنسكي” بعض اللمحات من الألحان الروسية الشعبية داخل هذا النسيج المتنافر، واعتمد على “الهيتروفونية” وهي مصاحبة اللحن بهارمونيات غير متوافقة وغير متزامنة.. ولذلك فإن طقوس الربيع هو الربيع في ثوبه الجديد.
وها نحن حين نحتفي بأعياد الربيع نردد دائمًا “آدي الربيع عاد من تاني” ويملؤنا حب الحياة فنشعر بالحقيقة الواقعة “الدنيا ربيع والجو بديع”.
اقرأ أيضًا: دكتورة رانيا يحيى تكتب: ألحان بمذاق الأمومة